2019-11-02
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته شيخي الفاضل.
لفت انتباهي أحد محلات بيع سجاد الحرير، وعند سؤالي لصاحب المحل عن نوع السجاد أهو حرير طبيعي أم صناعي؟ فأخبرني أنّه حرير طبيعي، فهل يجوز اقتناء سجاد الحرير وفرشه، أم محرّم كما يحرم لبسه على الرجال؟
جزاكم الله خير الجزاء.

الاسم : سائل

الرد:
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.
شكرا جزيلا على اهتمامكم بأمور دينكم وتواصلكم الطيّب مع هذا الموقع المبارك الذي يسعى لنشر كلّ ما ينفع النّاس، فلا تنحصر أهدافه في بيان الفتوى فقط.
وأذكّر جنابكم الكريم والقرّاء المباركين قبل الإجابة ببعض النصوص التي ذكرت الحرير، قال الحقّ جلّ وعلا:
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23].
وقال سبحانه:
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 25].
فمِنْ هدايات هذه الآيات ومثيلاتها:-
1- يجب على العقلاء التعلّق بالدار الآخرة وأنْ يسعوا لها سعيها، قال جلّ وعلا:
{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19].
2- أنْ لا ينشغلوا بزينة الحياة الدنيا وشهواتها على حساب الاستعداد للآخرة، قال سبحانه:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5].
قال سيّدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في آخر خطبة له:
(إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَعْطَاكُمُ الدُّنْيَا لِتَطْلُبُوا بِهَا الْآخِرَةَ، وَلَمْ يُعْطِكُمُوهَا لِتَرْكَنُوا إِلَيْهَا، إِنَّ الدُّنْيَا تَفْنَى، وَالْآخِرَةَ تَبْقَى، لَا تَبْطَرَنَّكُمُ الْفَانِيَةُ، وَلَا تُشْغِلَنَّكُمْ عَنِ الْبَاقِيَةِ، آثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ، وَإِنَّ الْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، اتَّقُوا اللَّهَ —) الزهد لابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى.
3- التوسّط في الحاجات والرفاهية تقيّدًا بالوسطية التي دعت إليها الشريعة الغرّاء، قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا —} [البقرة: 143].
وقال جلّ جلاله وعمّ نواله:
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس عليه السلام: 7].
ومن الغفلة ظهور الترف الزائد في حياة البعض، وانشغالهم بذلك عن تربية أنفسهم والقيام بواجبهم تجاه دينهم وأمّتهم.
ولقد ورد ذكر الترف وذمّه والتحذير منه في عدّة مواضع من كتاب الله جلّ جلاله، ومنها قوله عزّ شأنه في ذمّ أصحاب الشمال:
{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 41 – 45].
وَقَالَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ:
(كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا مَا لَمْ يُخَالِطْهُ إِسْرَافٌ، أَوْ مَخِيلَةٌ) الإمام ابن ماجه رحمه الله تعالى.
فعلى المسلم أنْ يفكّر بما هو أنفع له في دينه ودنياه، فبدلا من أنْ يقتني سجادة حرير بثمن ليس بقليل، يجعل ثمنها في عون المحتاجين، والدعاة الصادقين المربين، وهذا لا يعني أنّي أحرّم ذلك، لكن أدعو إلى عدم الإسراف، قال جلّ شأنه:
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31-32].
وَقال سيّدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام:
(إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَيُحِبُّ أَنْ يَرَىَ أَثَرَ نِعْمَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ، الْكِبْرُ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ وَغَمَصَ النَّاسَ) الإمام الطبراني رحمه الباري جلّ جلاله.
سَفِهَ الحَقَّ: أي رآه سَفَهًا وَجَهْلًا.
وَغَمْصُ النَّاسِ: هُوَ احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى النَّفْسِ بِعَيْنِ الْكَمَالِ، وَإِلَى غَيْرِهِ بِعَيْنِ النَّقْصِ.
فإذا كان هذا واجبا على العقلاء بشكل عام، تأكّد هذا في حق المسلم الذي رضي بالله تعالى ربًّا، وبسيّدنا محمّد صلّى الله تعالى وسلّم عليه وآله وصحبه نبيًّا ورسولًا، وبالإسلام دينًا.
أمّا ما يتعلق بالجواب على سؤالك فقد دلّت النصوص الشرعية على تحريم الحرير بالنسبة للرجال دون النساء، قَالَ سيّدنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ تعالى عَلَيْهِ وآله وصحبه وَسَلَّمَ:
(أُحِلَّ لِإِنَاثِ أُمَّتِي الْحَرِيرُ وَالذَّهَبُ، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا) الإمام أحمد رحمه الفرد الصمد عزّ شأنه.
وعَنْ سيّدنا حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ قَالَ:
(نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ) الإمام البخاري رحمه الباري سبحانه.
وعليه فإنّه يحرم على الرجال استعمال الحرير في اللباس، والجلوس، والصلاة عليه.
والمراد بالحرير هو الطبيعي المنسوج من دودة القزّ، ويحرّمُ ما كان خالصا أو هو الأغلب.
وكذا إذا استوى مع ما نسج معه، أمّا إذا كان الحرير هو الأقل فجمهور العلماء رضي الله جلّ وعلا عنهم وعنكم على جوازه، لأنّه حينئذ لا يكون له ظهور، بل الظهور لغيره.
عَنْ سيّدنا عُمَرَ رضي الله تعالى عنه، أَنَّهُ خَطَبَ بِالجَابِيَةِ فَقَالَ:
(نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الحَرِيرِ، إِلاَّ مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ، أَوْ ثَلاَثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ) الإمام الترمذي رحمه الله تقدست أسماؤه.
وعن سيّدنا عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله سبحانه عنهما قَالَ:
(إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنَ الْحَرِيرِ، فَأَمَّا الْعَلَمُ مِنَ الْحَرِيرِ، وَسَدَى الثَّوْبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ) الإمام أبو داود رحمه الغفور الودود جلّ جلاله.
الْمُصْمَتِ: أي الخالص من الحرير.
الْعَلَمُ: أي الطراز.
قال الإمام النووي رحمه الله عزّ وجلّ في المجموع:
(يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ اسْتِعْمَالُ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ فِي اللُّبْسِ وَالْجُلُوسِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِنَادِ إلَيْهِ وَالتَّغَطِّي بِهِ وَاِتِّخَاذُهِ سَتْرًا وَسَائِرِ وُجُوهِ اسْتِعْمَالِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا إلَّا وَجْهًا مُنْكَرًا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرِّجَالِ الْجُلُوسُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ بَاطِلٌ وَغَلَطٌ صَرِيحٌ مُنَابِذٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، هَذَا مَذْهَبُنَا، فَأَمَّا اللُّبْسُ فَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ فَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَوَافَقَنَا عَلَى تَحْرِيمِهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَمُحَمَّدٌ وَدَاوُد وَغَيْرُهُمْ. دَلِيلُنَا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ، وَلِأَنَّ سَبَبَ تَحْرِيمِ اللُّبْسِ مَوْجُودٌ فِي الْبَاقِي، وَلِأَنَّهُ إذَا حَرُمَ اللُّبْسُ مَعَ الْحَاجَةِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى) المجموع شرح المهذب (4/435).
وجاء في “الموسوعة الفقهية” ما نصّه:
(اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ افْتِرَاشِ النِّسَاءِ لِلْحَرِيرِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى تَحْرِيمِهِ) الموسوعة الفقهية (5/278).
أمّا الحرير الصناعيّ فلا يدخل في النهي.
وَصَلَّى الله تعالى وسلّم وبارك على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والله تبارك اسمه أعلم.