2019-12-22
السؤال:
سيّدي وقرّة عيني أسأل الله تعالى أن يديم عليكم الصحة والسلامة والعافية، وأنْ يجعلكم نورا ينير دروب المسلمين في كلّ بقاع الأرض.
سيّدي الحبيب بالنسبة لقروض الرعاية الاجتماعية التي تنصّ على أنّ المقترض يدفع مبلغا مقدما مقداره ٢٠٠ ألف دينار غير قابل للرد مخصصات دائرة وعدم الزيادة على مبلغ القرض الذي هو ١٠ مليون دينار ويتمّ تسديده سنويا، هل فيه إثم أو يقع فيه ربا، عافانا الله تعالى من الربا، وشكرا لكم سيّدي الحبيب.

الاسم: محمود كاظم

الرد:
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.
شكرا جزيلا على تواصلكم الطيّب مع هذا الموقع المبارك، وعلى جميل دعواتكم الصادقة، وأسأله جلّ وعلا لكم دوام الموفقية والترقّي، وبعد:
فلأهمية الموضوع المتعلق بالمصاريف أو المخصصات الإدارية التي تعتمدها بعض المؤسسات والبنوك، والتي يستغلّها بعضهم للالتفاف على الشرع الحنيف فيستبيحون الربا بها، مصداقاً لقول النبيّ الأكرم صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم:
(لَا تَرْتَكِبُوْا مَا ارْتَكَبَتِ اليَهُوْدُ فَتَسْتَحِلُّوْا مَحَارِمَ اللهِ بِأَدْنَى الحِيَلِ) الإمام ابن بطة رحمه الله سبحانه في كتاب إبطال الحيل، ص٤٢.
فمن المفيد أنْ أتوسّع في الإجابة لتمام الفائدة، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
لقد جعل الإسلام القرض موضوعاً للإرفاق وباباً للتعاون والإحسان، وليس للمعاوضة والإفادة والربح من المال بالمال نفسه، لذا لا يجوز شرعاً أخذ العوض على القرض؛ لأنّه ربا؛ قال ربّنا جلّت قدرته:
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة: 275].
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله عزّ وجلّ:
(وَكُلُّ قَرْضٍ شَرَطَ فِيهِ أَنْ يَزِيدَهُ، فَهُوَ حَرَامٌ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُسَلِّفَ إذَا شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَسْلِفِ زِيَادَةً أَوْ هَدِيَّةً، فَأَسْلَفَ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّ أَخْذَ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ رَبًّا) المغني (4/240).
أمّا تحميل تكلفة القرض على المقترض والتي تُسمّى في عصرنا هذا المصاريف الإدارية فقد أجازها الفقهاء رضي الله تعالى عنهم وعنكم بشروط؛ قال الإمام الدردير رحمه العليّ الكبير جلّ جلاله:
(مَنِ اقْتَرَضَ إِرْدَبًا مَثَلًا فَأُجْرَةُ كَيْلِهِ عَلَى المُقْتَرِضِ، وَإِذَا رَدَّهُ فَأُجْرَةُ كَيْلِهِ عَلَيْهِ بِلَا نِزَاعَ) الشرح الكبير (3/145).
ولكن يشترط في حساب التكاليف التي يجوز فرضها على المقترض الآتي:
أولاً: أنْ تكون التكاليف حقيقية، وهي التكلفة التي يقابلها عمل تمّ تقديمه للمقترض بالفعل، فلا يجوز تحصيل تكلفة بدل مخاطرة؛ لأنّ القرض مضمون على كلّ حال، والغُنم بالغُرْم.
ثانياً: أنْ تكون التكاليف مباشرة، وهي التي يتحمّلها المقرض في سبيل القرض، فلا يجوز تحميل المقترض التكاليف غير المباشرة، وهي التي يبذلها المقرض لممارسة مجموع أعماله، كالمصاريف الإدارية للمؤسسة عامّة وأجور جميع الموظفين ونحو ذلك، لأنّ هناك أبوابًا أخرى يستفيد منها البنك مثل معاملات المرابحة وغيرها، أمّا إذا كان البنك أو المؤسسة المالية مقتصرًا في عمله على دفع القروض الحسنة فتدخل التكاليف المرتبطة بتنفيذ هذا العمل إجمالًا في باب المصاريف الإدارية، لأنّ الأصل أنّه لا ينبغي للمُقرض أنْ يطلب زيادة على ماله، كذلك لا ينبغي أنْ نحمله تكاليف دفع الأجور الإدارية التي يتطلّبها مثل هذا المشروع، أما والقرض مقدّم من قبل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية التي تمثّل الدولة، وهي مكلّفة برعاية وكفالة الطبقات الفقيرة من المجتمع فلا ينبغي لها أنْ تفرض مثل هذا المبلغ إذ إنّ جميع العاملين في وزارتها هم موظفون يستلمون رواتبهم من الدولة.
ثالثاً: ألّا تُربط تكاليف القرض بمبلغ القرض أو مدته (على شكل نسبة مئوية)، وإنّما تكون على قدر التكاليف الحقيقية، بلا أيّة زيادة.
رابعاً: ألّا يتكرر أخذ التكاليف إلّا إذا تكرّر تقديم الخدمة، فلا يجوز للمصرف أنْ يفرض رسوماً دورية بحجة أنّها تكاليف القرض إلّا إذا تكرّر الإنفاق أو تكرّرت الخدمة.
خامساً: أنْ يتمّ تحديد هذه التكاليف من قبل أهل الخبرة من المحاسبين والماليين؛ لئلّا تحصل مبالغات في تقديرها.
سادساً: أنْ تُفصل المصاريف الإدارية ونحوها في حساب مستقل؛ حتى إذا تبيّن أنّ المبالغ المقتطعة فاضت عن التكلفة الفعلية، تُصرف هذه الزيادة في وجوهها الشرعية، بحيث لا يعود أي نفع منها على المؤسسة المقرضة.
وهذه مناسبة طيّبة لكي أتقدّم بالنصح لكلّ مؤسسة مالية قائمة على الإقراض أو الائتمان أنْ تحذر من التهاون في شأن التكاليف المفروضة على القروض؛ لأنّ كلّ زيادة غير حقيقية ربا، قال الله عزّ شأنه:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ —} [سورة البقرة: 235].
والخلاصة: فالمبلغ الذي يقوم البنك أو المؤسسة بخصمه إذا كان من المصاريف الإدارية أو مصاريف الخدمة الفعلية فيُعتبر أجرة، ولا حرج فيه إذا كان كذلك، ولكن يشترط في الأجرة تحديدها قبل البدء في العمل، ولا يصح أنْ تكون نسبة مرتبطة بالقرض، كما أنّه يلزم أنْ تكون تلك المصاريف متناسبة مع العمل والجهد الذي يُبذل.
أمّا إنِ ارتبطت المصاريف الإدارية بالقرض فكانت تزيد بزيادة المبلغ المقترض وتنقص بنقصانه، فإنّ ذلك يكفي دليلاً على أنّها فائدة وليست أجرة، وبالتالي فإنّها تكون حراماً.
وأخيراً أهيب بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية أنْ تنجز مهامّها تجاه المحتاجين والفقراء المشمولين بالرعاية الاجتماعية على أتمّ وجه، وتُسهم في رفع معاناتهم، وتتحمّل التكاليف الإدارية المتعلقة بقرض هذه المبالغ إذا كانت تتعامل مع بنوك معينة لغرض إتمام هذه المعاملات.
أمّا ما يخصّ المستفيد من هذا القرض فأسأل الله جلّ في علاه أنْ يُغنيه أوّلًا، وألّا يجعل عليه من حرجٍ في أخذه لهذا القرض لسدّ ضرورته أو حاجته ومنْ يعول.
وصلى الله تعالى وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والله تبارك اسمه أحكم وأعلم.