23-8-2020
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعد التحية والاحترام اللائقين بحضرتكم أسألكم سيّدي عن: رأي جنابكم المعظّم في تقسيم السادة الأشاعرة صفة الكلام الإلهي إلى لفظي ونفسي؟ وهل أدلتهم قياس للغائب على الشاهد؟ كما ادّعى بعض المخالفين.
شاكر للطفكم وممتنّ لإحسانكم.
فقير عطفكم
ثائر 

الاسم: ثائر إبراهيم 

الرد:-
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.
حيّاكم الله سبحانه، وزادكم علمًا نافعًا وعملًا صالحًا متقبّلًا، وشكرا جزيلا لزيارتكم هذا الموقع الكريم ودعواتكم الصادقة، وبعد:-
إنّ هذا الموقع الأغرّ قد جُعِلَ لخدمة المسلمين جميعًا، وفضلا عن كونه يجيب عن تساؤلات النّاس وفتاويهم؛ فإنّه موقع تربوي يعنى بالتزكية النبوية الشريفة وتوجيه القاصدين إليها لينهض بأحوالهم بإذن الله جلّ وعلا فيجسّد حضارة الإسلام الخالدة سُدى ولُحْمَة.
ويبتعد عن المسائل التي يكون ميدان بحثها حلقات العلم التخصصي لطلبة العلم الشرعي ذوي المستويات العالية، لكن أضع بين يدي جنابكم الكريم الأمور الآتية:-
1- المسألة التي جاء السؤال عنها ممّا جرى فيها تعدد الآراء بين مذاهب الأمّة المباركة في العقيدة الإسلامية من أهل الحق مع مخالفيهم، ونجدها في كتب العقائد وبالأخصّ كتابيّ:-
(المقاصد) للإمام سعد الدين التفتازاني، و(المواقف) لعضد الدين الإيجي، عليهما الرحمة والرضوان.
قال الإمام السعد التفتازانِيّ رحمه ربّنا الكريم جّل جلاله فِي تلخيص المسألة:-
(وبالجملة لا خلاف لأرباب الملل والمذاهب فِي كون البارِي تعالى متكلمًا، وإنّما الخلاف في معنى كلامه وفي قدمه وحدوثه، فعند أهل الحق كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف بل صفة أزلية قائمة بذات الله تعالى منافية للسكوت والآفة كما في الخرس والطفولية، هو بها آمِرٌ ناهٍ مخبرٌ وغير ذلك، يُدَلُّ عليها بالعبارة أو الكتابة أو الإشارة) شرح المقاصد (2/99).
2- إنّ الكلام النفسي يسمّى كلاما، لكن الإشكالية في كون الكلام النفسي هو الحقيقة في معنى الكلام أو مجاز وليس حقيقة.
3- الكلام النفسِيّ ثابت نقلا وعقلا:-
فأمّا نقلا:- فقد تضافرت آيات الكتاب الكريم، وأحاديث الرسول صلّى الله تعالى وسلّم عليه وآله وصحبه الثقات العدول على ذلك، ومنها:-
قال الحكيم الخبير جلّ اسمه:-
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [سورة سيّدنا يوسف عليه الصلاة والسلام :77].
فــ {قال} إمّا بدلٌ مِنْ {أَسَرَّ} أو استئناف بيانِيّ، وعلى التقديرين تدلّ الآية الكريمة على أنّ للنفس كلامًا لقوله فِي نفسه كما حكَى القرآن الكريم:-
{أنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا}.
وقال العليم جلّ شأنه:-
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سورة المجادلة: 8].
وورد عن سيّدنا أبِي هريرة رضِى الله عنه قال: قال سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم:-
(يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) الإمام مسلم رحمه ربّنا المنعم.
وهذا نصّ في الكلام النفسي لربّ العزة تقدّست ذاته.
وأمّا عقلا:- فما يشعر به كلّ متكلّم عاقل من حقيقة الكلام فِي نفسه قبل النطق به، وقد قال الشاعر:-
إنَّ الكَلَامَ لَفِي الفُؤَادِ وَإنَّمَا *** جُعِلَ اللّسَانُ عَلَى الفُؤَادِ دَلِيْلًا
4- ليس من الأَدَب الخَوضُ في مباحث العِبارَة واللفظ والتلاوة وَالمَتلُوّ إلاّ بِقَدرِ ضرورة التعليم، لأنّ ذلك يؤدي إلى ضَربِ النُصُوص بِبَعضِها وَتخريب عُقُولَ العَوامّ، وأَحيانًا لا بُدّ من هذا التفصيل؛ لإِزاحة شُبَه المَشَبّهة وَالمُجَسّمة الحُلُولِيّة وَتلبيسات نُفاة صفة الكلام للملك القدوس جلّت صفاته العليّة.
5- قياس الشاهد على الغائب من الأدلة العقلية التي يستدل بها المتكلمون لإثبات مسائل العقيدة لكن هذه الأدلة ليست هي الأصل في الخطاب مع المسلمين، وإنّما يلجأ إليها في موضعها، قال الشيح محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى:-
(والحامل لأهل الحق على القول بالكلام النفسِي هو إجماع التابعين على القول بأنّ القرآن كلام الله غير مخلوق فخرجوا إجماعهم هذا على هذا الوجه المعقول وإلّا لما صحّ قولهم، وتسفيه أحلام التابعين جميعا لا يصدر إلّا عن مجازف، فالفرق بين ما هو قائم بالخلق والمعنى القائم بالله سبحانه هو المخلص الوحيد في هذه المسألة، فاللفظي حديث والنفسي قديم، كما أشار إلى هذا وإلى ذاك إمام الأئمة أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وتابعه أهل الحق) تبديد الظلام المخيم ص139.
قال الإمام أبو حنيفة رضوان الله سبحانه عليه:-
(ويتَكَلَّم لَا ككلامنا وَيسمع لَا كسمعنا وَنحن نتكلّم بالآلات والحروف، وَالله تَعَالَى يتَكَلَّم بِلَا آلَة وَلَا حُرُوف، والحروف مخلوقة، وَكَلَام الله تَعَالَى غير مَخْلُوق وَهُوَ شَيْء لَا كالأشياء) الفقه الأكبر ص 26.
والله تبارك اسمه أعلم وأحكم.
وصلّى الله تعالى وسلّم على مَنْ أنزل عليه القرآن، وجاء بالحجة والدليل والبرهان، سيّدنا محمّد المصطفى العدنان، وعلى آله وصحبه أهل البصيرة والعرفان.