14-9-2020
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سيّدي وتاج راسي رضي الله عنكم وأرضاكم وأطال الله في عمركم ونفعنا ببركة دعائكم سيّدي سؤال هل من الممكن رؤية الإنسان للجنّ وجزاكم الله خير الجزاء
 
من: أم محمد
 
الرد:-
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.
أشكرك على دعواتك الطيّبة المخلصة، وتواصلك مع هذا الموقع المبارك، سائلا المولى القدير لك بمثل ما دعوت وزيادة يحبّها لعباده الصالحين في الدين والدنيا والآخرة، إنّه سبحانه سميع قريب مجيب.
الجنّ من مخلوقات الله عزّ وجلّ التي خلقها لعبادته وطاعته، وهذه حقيقة واقعة أعلمنا الله تقدّست أسماؤه بها، فقال:-
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات: 56].
واعلمي أنَّ الأصل في الجنّ أنَّهم مستترون عن الإنس، ولهذا سُمُّوا [جِنًّا] لأنَّ المادة اللغوية [جنّ] تدلّ على أصل واحد، وهو السَّتْر والتستُّر.
وقد خلق الله سبحانه الجنّ من مارجٍ من نار، وهو اللهيب الأسود الشديد الحرارة، وهذا ما منح الجنّ طبيعتهم الفيزيائية والمادية الخفيّة والتي تجعل من الصعب على عين الإنسان رؤيتهم أو تحديد مكان تواجدهم، وقد أخبر الله جلَّ وعلا بهذه الحقيقة حيث قال:-
{يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [سورة الأعراف: 27].
ويقتضي هذا أنّهم يرون الإنس في حال لا يراهم الإنس فيها، وليس في الآية أنّهم لا يراهم أحد من الإنس بحال، بل قد يراهم كثير من الإنس، لكن لا يرونهم في كلّ حال من أحوال الجنّ، فقد يتشكّل لهم بأشكال مختلفة.
والرّاجح من أقوال العلماء رضي الله تعالى عنهم وعنكم هو عدم إمكانيّة رؤيتهم على خلقتهم الّتي خلقوا عليها، بل يمكن رؤيتهم إذا تمثّلوا وتحوّلوا على صورٍ شتّى كالإنسان والحيوان ونحوه، وقد ثبت ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة رسوله صلوات ربي وسلامه عليه وآله وصحبه.
فقد قال جلّ جلاله وعمَّ نواله:-
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الأنفال: 48].
ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله العلي الكبير في تفسير هذه الآية:-
(عَنِ ابْنِ عباس قَالَ: جَاءَ إِبْلِيسُ يَوْمَ بَدْرٍ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ، مَعَهُ رَايَتُهُ، فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، وَالشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} فَلَمَّا اصْطَفَّ النَّاسُ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبضة من التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى إِبْلِيسَ، فَلَمَّا رَآهُ -وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ -انْتَزَعَ يَدَهُ ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا هُوَ وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ، أَتَزْعُمُ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ؟ فَقَالَ: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وَذَلِكَ حِينَ رَأَى الْمَلَائِكَةَ).
وَعَنْ سيّدنا أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ، قَالَ:-
(وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً، وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ، لاَ أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً، وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، أَنَّكَ تَزْعُمُ لاَ تَعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} [سورة البقرة: 255]، حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: مَا هِيَ، قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ}، وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ – وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الخَيْرِ – فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: ذَاكَ شَيْطَانٌ) الإمام البخاري رحمه الباري عزّ شأنه.
ولا يشترط في مَنْ يرى الجنّ أنْ يكون صالحًا، فقد يكون كذلك أو لا.
ويستثنى من عدم رؤية الجنّ على حقيقتهم وصورهم الأصلية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد ثبت ذلك في الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة، إذ سخّر الله جلّ وعلا الجنّ لنبيّه سليمان عليه السلام، استجابة لدعوته كما أخبر بذلك القرآن الكريم فقال على لسان سيّدنا سليمان عليه السلام:-
{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [سورة ص: 35 – 38].
فكان سيّدنا سليمان عليه السلام يراهم ويخاطبهم، ويجزي المحسن منهم بإحسانه، ويعاقب المسيء منهم، ذكر الإمام ابن كثير رحمه السميع البصير تبارك اسمه في تفسيره:-
(وَقَوْلُهُ: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} أَيْ: مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَبْنِيَةِ الْهَائِلَةِ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجَفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْبَشَرُ وَطَائِفَةٌ غَوَّاصُونَ فِي الْبِحَارِ يَسْتَخْرِجُونَ مِمَّا فِيهَا مِنَ اللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا فِيهَا {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ} أَيْ: مُوثَقُونَ فِي الْأَغْلَالِ وَالْأَكْبَالِ مِمَّنْ قَدْ تَمَرّد وَعَصَى وَامْتَنَعَ مِنَ الْعَمَلِ وَأَبَى أَوْ قَدْ أَسَاءَ فِي صنيعه واعتدى).
وحضرة النبيّ الأكرم صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وآله وصحبه وَسَلَّمَ:-
(إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أنْ أرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ اغفر لي وهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا) الإمام البخاري رحمه الباري سبحانه.
قال الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى:-
(وَاسْتَدَلَّ الْخَطَّابِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ سُلَيْمَانَ كَانُوا يَرَوْنَ الْجِنَّ فِي أَشْكَالِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ حَالَ تَصَرُّفِهِمْ قَالَ وَأَمَّا قَوْلَهُ تَعَالَى إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا ترونهم فَالْمُرَادُ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِ بَنِي آدَمَ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ نَفْيَ رُؤْيَةِ الْإِنْسِ لِلْجِنِّ عَلَى هَيْئَتِهِمْ لَيْسَ بِقَاطِعٍ مِنَ الْآيَةِ بَلْ ظَاهِرُهَا أَنَّهُ مُمْكِنٌ فَإِنَّ نَفْيَ رُؤْيَتِنَا إِيَّاهُمْ مُقَيَّدٌ بِحَالِ رُؤْيَتِهِمْ لَنَا وَلَا يَنْفِي إِمْكَانَ رُؤْيَتِنَا لَهُمْ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالَةِ وَيُحْتَمَلُ الْعُمُومُ وَهَذَا الَّذِي فَهِمَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنَّ أَبْطَلْنَا شَهَادَتَهُ) فتح الباري (6/459).
والله جلّت قدرته أعلم.
وصلّى الله تعالى على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.