19-9-2020

السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جزاكم الله خيرًا على بذلكم هذا المجهود المبارك سؤالي عن الهبة:-

نحن أسرة مكونة من والدين وخمسة أولاد، ولدين ذكور وثلاثة إناث، قام والدي حفظه الله بتوزيع أو بهبة كلّ ما يملك علينا نحن الخمسة لكنّه لم يعدل، فقد وهبني أنا وإخوتي أكثر بكثير ممّا وهب البنات، ولقد تحدّثت مع والدي حفظه الله من باب الرحمة به وقلت: يا والدي هذا لا يجوز في الشرع.

فأجابني غاضبًا: أنا أفعل ما أراه مناسبًا، وأنا أُحاسب أمام الله، لا دخلَ لكم بذلك.

سيّدي الفاضل، البنات لم ينطقن بحرف ولكنّي أنا وأخي مستاؤونَ من هذا التصرّف ونشعرُ بأنّ هناك في قلوب البنات شيئا ما.

فهل يجوز لأحد الأبوين أنْ يقرض أحد الأبناء دون الآخرين أيضا بدون نيّة التمييز أو الميلان ولكن حسب حالة المقترض؟

علماً أنّ سندات الأملاك قد صدرت وبأسمائنا على القسمة الضيزىٰ أعلاه.

ما الحلّ برأيكم؟ جزاكم الله خير الجزاء.

وجزاكم الله خيرا.

 

من: سائل.

 

الرد:-

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.

شكرا جزيلا على تعلّقك المبارك بهذا الموقع الطيّب، ودعواتك الكريمة، وأسأله جلّ في علاه أنْ يوفقك لكلّ خَيْر، ويدفع عنك كلّ ضَيْر، إنّه سبحانه قريب مجيب، وبعد:-

فلقد أفرحتني رسالتكم المباركة كثيرًا، وإنّي لأحمد الله جلّ في علاه؛ لما وجدت منكم من التزام لطيف بالشرع الشريف، وشفقة وحنان ورحمة بأبيكم وأخواتكم، فأنتم تسعون ليكون تصرّف والدكم الكريم هداه الله جلّ جلاله في دائرة مرضاة الله عزّ وجلّ، وكذلك أنتم حريصون مشفقون على أخواتكم؛ وفي هذا تمسّكٌ بهدايات قول الحبيب المصطفى صلّى الله تعالى وسلّم عليه وآله وصحبه أهل الصدق والوفا المتفضّل بدعائه الكريم:-

(اللهُمَّ إنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيْفَيْنِ، اليَتِيْمِ وَالمَرْأَة) الإمام النسائي رحمه الله الولي سبحانه.

أُحَرِّج: أي ألحق الحرج والإثم.

1- أمّا ما يتعلّق بتصرّف والدكم، فيجوز للإنسان أنْ يهب ماله كلّه أو بعضه إلى ورثته في حياته شرط ألّا يقصد من ذلك الإضرار بهم، كأنْ يعطي بعضهم دون البعض، وينبغي عليه أنْ يعدل بينهم، ولا يفضّل أحدهم على الآخر لما فيه من منافاة للعدل الذي أمرهما الله جلّ وعلا به، ولهما في سيّدنا رسول الله صلّى الله تعالى وسلّم عليه وآله وصحبه ومَنْ والاه، أسوة حسنة حين رفض أنْ يشهد لسيّدنا بشير رضي الله سبحانه عنه على هبة يريد أنْ يهبها لابنه النعمان، فسأله النبيّ عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام:-

(يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ) الإمام البخاري عليه الرحمة والرضوان.

وفي رواية أنّه عليه الصلاة والتسليم وآله وصحبه أجمعين قال له:-

(أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلَا إِذًا) الإمام مسلم رحمه المنعم جلّ شأنه.

 

2- لا يجوز حرمان الأنثى سواءً أكانت متزوّجة أم لا، وللعلماء رضي الله تعالى عنهم وعنكم في عطاء الوالدين لبناتهم مذهبان:-

الأوّل: لا بدّ أنْ يكون تقسيم العطاء بين الأولاد كقسمة المواريث، أي للذكر مثل حظ الأنثيين، قال الحقّ جلّ وعلا:-

{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ —} [سورة النساء: 11].

قال عطاءٌ رحمه الله جلّ جلاله:-

(إنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، قَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ ثُمَّ تُوُفِّيَ وَامْرَأَتُهُ حُبْلَى لَمْ يَعْلَمْ بِحَبَلِهَا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَأَرْسَلَ عُمَرُ وَأَبُو بَكْرٍ فِي ذَلِكَ إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ: أَمَّا أَمْرٌ قَسَمَهُ سَعْدٌ وَأَمْضَاهُ فَلَنْ أَعُودَ فِيهِ، وَلَكِنْ نَصِيبِي لَهُ، قُلْتُ: أَعْلَى كِتَابِ اللهِ قَسَّمَ؟ قَالَ: لَا نَجِدُهُمْ كَانُوا يَقْسِمُونَ إِلَّا عَلَى كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) الإمام الطبراني رحمه الله تعالى.

الثاني: التسوية في العطاء بين الذكر والأنثى، فَحديث سَيِّدِنَا النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا السابق لم يستفصلْ حضرة النبيِّ صلَّى اللهُ تعالى عليه وآلِه وصحبه وسلَّم عن أولادِ سيّدنا بشيرِ بنِ سعدٍ رضي الله سبحانه عنه، أكلُّهم ذكورٌ أم فيهم أنثى؟ وتَرْكُ الاسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ الاحْتِمَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ، كما هو مقرَّرٌ في القواعد الأصولية.

وهذا الذي أرجّحه ولمعرفة المزيد أرجو مراجعة جواب السؤال المرقم (1865) في هذا الموقع الأغرّ.

لكن إذا أراد أحد الأولاد أنْ يؤثر بنصيبه إلى أخيه أو أخته فهذا أمرٌ محمود شرعًا لأنّه يزيد الألفة والمحبة بينهم، كيف لا وقد قال سيّدنا رسول الله صلى الله تعالى وسلم عليه وآله وصحبه ومَنْ والاه:-

(تَهَادُوْا تَحَابُّوْا) الإمام البخاري رحمه الباري سبحانه في الأدب المفرد.

 

3- لا أنصح الأبوين أنْ يقسم ماله على أولاده في حياته وذلك لأسباب، ومنها:-

أ- لأنّ نظام المواريث مرتبط بالوفاة.

ب- قد تتبّدل أحوال الوالدين، أو الأولاد، فلا يهتمّوا بآبائهم أو أمهّاتهم فيُذَلُّوْا بعد أنْ كانوا أعزّة. ولطالما رأينا حوادث كثيرة من هذا النوع في هذا الزمن الذي تغيّرت فيه النفوس والقِيَم.

 

4- إذا كان المال المعطَى للأولاد على سبيل النفقة أو المساعدة فهذا لا تشترط فيه التسوية بل يكون بحسب حاجة الولد واستعداده، ومن المعلوم أنّ هذا الأمر مختلف من ولد لآخر وبالتالي لا يمكن التسوية، مع توجيه الخطاب إلى الجميع بأنّه سيكون معهم في الظروف الاستثنائية قدر المستطاع، فعلى سبيل المثال لا الحصر:-

والد له ابنان، أحدهما كسول لا يهتم بدراسته، والآخر متفوّق وعنده همّة عالية ورغبة كبيرة أنْ يكمل دراسته، فالثاني بحاجة إلى المال أكثر من الأوّل، والعدل يقتضي هنا أنْ ينفق الوالد على ابنه المتفوّق حتّى يحقّق هدفه، وقد يكون في هذا التصرّف تشجيع للأوّل أنْ يحذو حذوَ أخيه فينصلح حاله.

وكذلك يكون الحُكْمِ بالنسبة للدَّيْنِ، فقد يحتاج أحد الأبناء إلى مبلغ من المال لقضاء حاجة له، وبإمكان الوالد مساعدته، فلا بأس في ذلك، ولا يعدّ هذا تفريقًا بين الأولاد ما دام الوالد ليس في نيّته تمييز أحد أولاده على الآخرين بهذا الفعل، وإذا حدث ما يستوجب المساعدة لولد آخر قام بذلك، كأنْ يكون فقيرًا، أو يكون بحاجة لعلاج ولا يملك مالًا، أو غيرها من الأمور، فهذا كلّه لا تشترط فيه التسوية.

 

5- على المسلم أنْ يعوّد نفسه على تحمّل الآخرين والعفو عنهم في كلّ مرّة طمعًا في عفو الله عزّ وجلّ ومغفرته كما أمر سبحانه في قوله:-

{— وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [سورة النور: 22].

لأنّ كثيرا من أسباب هذا التفريق في الهبة العلاقات السيئة بين ذوي الأرحام، وهذا شيء لا نتمنّاه للمسلمين إذ يجب أنْ تكون قلوبهم سليمة تجاه الآخرين وخاصّة مَنْ تربطهم معهم صلة قربى أو نسب أو جِيْرَة، وأنْ لا تكون أفعالهم ردّة فعل لظروف معينة فيكون ذوو القربى في هذه الحالة هم الضحيّة.

 

6- على الأبناء عدم إنفاذ تنازل أحد الوالدين لأحد أولادهم، وعليهم واجب تبيان ذلك والنصح لهما، إمّا بتنازله عن حصّتها لجميع الأولاد أو الاحتفاظ بحصّته، إلّا إذا تيقّن أنّ الباقين تطيب أنفسهم بهذه الهبة فلا مانع من قبولها.

أمَا وقد حصل ما حصل، وفي ظلال القاعدة الفقهية المباركة:-

(الضَّرَرُ يُزَالُ).

فإنّكم تستطيعون بفضل الله تباركت أسماؤه أنْ ترفعوا هذا الحَيْف وتصحّحوا هذه القسمة الضيزى وذلك بأنْ تُعطوا أخواتكم نصيبهنّ المفروض وفق الشرع الشريف خاصّة وقد أصبحت الأموال باسمكم وتحت تصرّفكم، وتكونوا بذلك قد أرضيتم ربّكم سبحانه، وطيّبتم خاطر أخواتكم، وحافظتم على رحمكم الذي أوصى الحق عزّ وجلّ بوصلها وحذّر من قطعها؛ فقال جلّ ذكره:-

{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [سورة سيّدنا محمد عليه الصلاة والسلام: 22].

والله تبارك اسمه أعلم.

وفقكم الله جلّ وعلا وفتح عليكم أبواب السعادة والتيسير في الدنيا والآخرة.

وصلّى الله تعالى على الرحمة المهداة، سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.