14/02/2010

السؤال:

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله واله وصحبه اجمعين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: يقول تعالى (…. ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما)

سؤالي هو: ما هو أدلة القائلين بإبطال حكم هذه الآية بانتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وهل لهذه الآية من شبيهات في الحكم؟ أفيدونا مأجورين.

 

الاسم: عاشق سيّدنا محمد (صلّى الله عليه وسلّم) خير الناس.

 

الرد:-

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.

قبل كلّ شيء أعتذر عن تأخر جوابي -والعذر عند كرام القوم مقبول- وذلك لسببين:-

أ‌- كنت مسافرًا إلى بلدي الحبيب العراق، فرّج الله سبحانه عن أهله وهداهم سبل السلام.

ب‌- بحثت كثيرًا لأقف على أدلة من جعل المجيء إلى سيّدنا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم ليس شرطًا أو اقتصره على الحياة الدنيوية، فما وجدت شيئًا فيما تيسر لي إلّا قول الشيخ أبو بكر الجزائري رحمه الله جلّ في علاه، وأنقله نصًّا من كتابه (أيسر التفاسير) عند تفسيره للآية الكريمة، قال رحمه الله تعالى وغفر له: من هداية الآيتين:-

(2- بطلان من يزعم أنّ في الآية دليلا على جواز طلب الاستغفار من الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأنّ قوله تعالى {— وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ —} [سورة النساء: 64]. نزلت في الرجلين اللّذين أرادا التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي وإعراضهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاشترط توبتهما إتيانهما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستغفارهما الله تعالى واستغفار الرسول لهما، وبذلك تقبل توبتهما وإلّا فلا توبة لهما. أمّا مَنْ عداهما فتوبته لا تتوقف على إتيانه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا لاستغفاره له وهذا محلّ إجماع بين المسلمين) انتهى.

وهذا الكلام فيه نظر، لأنّ قوله (بطلان مَنْ يزعم أنّ في الآية دليلا على جواز طلب الاستغفار من الرسول صلّى الله عليه وسلّم) تصريح بعدم جواز ذلك وهذا معارض لما ثبت في كتاب الله تعالى من أنّ الله عزّ وجلّ أمر رسوله الكريم عليه الصلاة والتسليم وآله وصحبه أجمعين بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات فقال سبحانه:-

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [سورة سيّدنا محمد صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم: 19].

فكيف لا يجوز أنْ أذهب إلى مَنْ أمره ربّه عزّ شأنه بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات بنصّ صريح قطعيّ الدلالة والثبوت وأقول له: يا سيّدي استغفر لي؟! وقال تعالى:-

{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [سورة الفتح: 11].

وقال:-

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [سورة الممتحنة: 12].

فما عاب الله جلّ جلاله عليهم طلبهم هذا، وهل يعقل أنْ يقرّ الله سبحانه أحدًا على أمر غير جائز؟ إنّما عاب عليهم أنّهم جعلوه على ألسنتهم فقط:-

{— يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ —} [سورة آل عمران عليهم السلام 167].

والواجب الإيماني يقتضي أنْ يكون الطلب قلبيًّا معبّرًا عنه بألفاظ كما هو حال المؤمنين الصادقين الذين تشهد قلوبهم خصائص حبيبهم محمّد صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم في كلّ وقت وأوان. ولقد كان طلب الاستغفار من سيّدنا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه وآله وصحبه ومَنْ والاه منهج الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وعنكم حتّى حكى الله جلّت عظمته ذلك عنهم، فكانوا حين يطلعون على أمر مخالف لشرع الله تعالى، أو يظنون ذلك بالظنّ الراجح عند أحد المسلمين كانوا يسارعون في دعوته إلى المجيء لحضرة النبيّ عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام وطلب الاستغفار منه، قال عزّ من قائل:-

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} [سورة المنافقون: 5].

فاستكبارهم عن الحضور عند سيّدنا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم حرمهم من الخير الموفور فقال عزّ وجلّ:-

{سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة المنافقون: 6].

ولا يقال: إنّ هذا في شأن المنافقين لأنّ المسلمين الناصحين من الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم ما كانوا يعرفون المنافقين، ثمّ إذا كان طلب الاستغفار من حضرة النبيّ المختار عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الأبرار غير جائز فلماذا ذهب مَنْ تخلّف عن غزوة تبوك إلى النبيّ صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم؟ ولماذا لم يقل لهم بأبي وأمي ونفسي هو: هذا لا يصح! فعندما مرّ سيّدنا كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه بمحنة التخلّف وصدق مع سيّدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام، قال:-

(وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي، فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ المُتَخَلِّفُونَ، قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ —) الإمام البخاري رحمه الباري سبحانه.

ثمّ إنّ طلب الاستغفار من غير سيّدنا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم ليس جائزًا فحسب بل هو مأمور به، فمن باب أولى أنْ يكون طلبه من سيدنا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه وآله وصحبه كذلك، كما جاء في الحديث الشريف عن سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال:-

(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ —) الإمام مسلم رحمه المنعم جلّ وعلا.

وقد حرص أصحاب سيّدنا رسول الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم على هذا التوجيه بما فيهم الخلفاء الراشدون رضي الله سبحانه عنهم الذين أَمرنا باتباع سنتهم، حيث قال عليه الصلاة والتسليم وآله وصحبه الميامين:-

(— فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) الإمام أبو داود رحمه الودود جلّ جلاله.

إنّ الشرع الشريف يوجه أتباعه لطلب الاستغفار من الغير وتربية مَنْ يستغفر لهم، قال عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام:-

(إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ) الإمام الترمذي رحمه الله جلّ في علاه.

ودعاء الولد عام في الطلب يشمل الاستغفار وغيره، ويوضحه هذا الحديث الشريف:-

(إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ) الإمام ابن ماجه رحمه الله تعالى.

فإذا قلت لولدي: يا ولدي استغفر لي في حياتي وبعد مماتي أفأكون عاصيًا؟

وتعليل الشيخ الجزائري رحمه الله عزّ وجلّ لما ذهب إليه بقوله:-

(لأنّ قوله تعالى -ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك- الآية نزلت في الرجلين اللذين أرادا التحاكم الى كعب بن الأشرف اليهودي وإعراضهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاشترط توبتهما إتيانهما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستغفارهما الله تعالى واستغفار الرسول لهما وبذلك تقبل توبتهما وإلّا فلا توبة)

هذا التعليل مردود بالأدلة الماضية، وأيضًا بالقاعدة الأصولية التي تقول:-

(العِبْرَةُ بِعُمُوْمِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوْصِ السَّبَبِ)

بل الآية فيها قرينة لفظية تمنع هذا التخصيص، وهي مجيء ألفاظها بصيغة الجمع لا المثنى:-

(ظلموا- أنفسهم – جاؤوك – فاستغفروا – واستغفر لهم – لوجدوا)

وفي هذا القدر كفاية لإثبات الجواز على أقلّ تقدير.

أمّا قوله:-

(أمّا مَنْ عداهما فتوبته لا تتوقف على إتيانه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا لاستغفاره له وهذا محل إجماع بين المسلمين)

أقول وبالله تعالى التوفيق:-

لا أحد يستطيع أنْ يضيق واسعًا، فرحمة الله سبحانه عظيمة سبقت غضبه، والأبواب كثيرة، والوسائل متنوعة، فالندم توبة كما جاء في قول حضرة النبيّ صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم:-

(النَّدَمُ تَوْبَةٌ) الإمام ابن ماجه رحمه الله عزّ شأنه.

والاستغفار سبيل للغفران ببيان الرحيم الرحمن جلّ جلاله إذ قال:-

{وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [سورة النساء: 110].

وعمل الصالحات سبيل لتكفير السيئات:-

{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [سورة سيّدنا هود عليه السلام: 114].

وقال الرحمة المهداة عليه وآله وصحبه أفضل صلاة وتسليم:-

(اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا —) الإمام الترمذي رحمه الله جلّ ذكره.

ولا شك أنّ العبد كلّما أتمّ توبته وحشّد الوسائل المقوّية لها كان ذلك أرجى لقبولها ومنها ذهابه إلى سيّدنا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه وآله وصحبه ومَنْ والاه عملًا بالآية الشريفة وغيرها من الأدلة التي ذكرت بعضها في جوابي.

وبعد هذا البيان نتشرّف بذكر بعض ما قاله أهل الشأن في تفسير الآية:-

قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره (10/162):-

(إِنَّمَا قَالَ -وَاسْتَغْفَرَ لَهُم الرَّسُوْلُ- وَلَمْ يَقُلْ -اسْتَغْفَرْتَ لَهُم- إِجْلَالًا لِلْرَّسُوْلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَنَّهُمْ إِذَا جَاؤُوْهُ فَقَدْ جَاؤُوْا مَنْ خَصَّهُ اللهُ بِرِسَالَتِهِ وَأَكْرَمَهُ بِوَحْيِهِ وَجَعَلَهُ سَفِيْرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرُدُّ شَفَاعَتَهُ، فَكَانَتِ الفَائِدَةُ فِي العُدُوْلِ عَنْ لَفْظِ الخِطَابِ إِلَى لَفْظِ المُغَايَبَةِ مَا ذَكَرْنْاهُ).

وبهذا المعنى فسّر معظم المفسرين رضي الله تعالى عنهم وعنكم هذه الآية، وأورد بعضهم القصّة التالية التي تجسّد فهم أهل العلم لحقيقة استغفار سيّد الأبرار عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الأخيار لِمَنْ ظلم نفسه حتّى بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى منهم الإمام القرطبي (5/265-266)، والإمام ابن كثير (1/492)، وقد استحسن هذه القصّة جماعة من الأئمة الثقات من الحفّاظ والمحدثين والفقهاء فأوردوها في كتبهم منهم الإمام أبو محمد ابن قدامة المقدسي في المغني (3/588-589) والإمام أبو الفرج ابن قدامة المقدسي الحنبلي في الشرح الكبير (3/494)، والإمام النووي في المجموع (8/274)، والأذكار (ص195)، وأوردها الشيخ الصابوني حفظه الله تعالى في كتابه (مختصر تفسير ابن كثير) وجاء فيه:-

(وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُم الشَّيْخُ أَبُوْ مَنْصُوْر الصَّبَاغ فِي كِتَابِهِ -الشَّامِل- الحِكَايَةَ المَشْهُوْرَةَ عَنِ العُتْبِيّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُوْلَ اللهِ، سَمِعْتُ اللهَ يَقُوْلُ (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوْا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوْكَ فَاسْتَغْفَرُوْا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُم الرَّسُوْلُ لَوَجَدُوْا اللهَ تَوَّابًا رَحِيْمًا) وَقَدْ جِئْتُ مُسْتَغْفِرًا لِذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إِلَى رَبَّي. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُوْلُ:-

يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالقَاعِ أَعْظُمُهُ *** فَطَابَ مِنْ طِيْبِهِنَّ القَاعُ وَالأَكَـمُ

نَفْسِـي الفِدَاءُ لِـقَـبْرٍ أَنْتَ سَـاكِنُهُ *** فِيْهِ العَفَافُ وَفِيْهِ الجُـوْدُ وَالكَرَمُ

 

ثُمَّ انْصَرَفَ الأَعْرَابِيُّ، فَغَلَبَتْنِي عَيْنِي فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقَالَ: يَا عُتْبِيّ الْحَقِ الأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ)

فهذه الآية، وإنْ كانت نزلت بسبب المنافقين المتحاكمين إلى الطاغوت، فهي عامّة تشمل كلّ عاص ومقصّر، لأنّ ظلم النفس المذكور فيها يشمل كلّ معصية، ثمّ إنّها -أي الآية- تدلّ على الاستشفاع بسيّدنا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم في حالتي حياته الدنيوية والأخروية، لأنّ كُلًّا مِنْ فِعْلَي المجيء والاستغفار وقعا في سياق الشَّرْط، والفعل في سياق الشرط يدلّ على العموم.

هذا وإنّي أذكّر المسلمين وأخصّ منهم طلابي أنْ لا يتخذوا من اختلاف وجهات نظر العلماء رضي الله تعالى عنهم وعنكم سببًا للفتنة بين المسلمين، فالمسألة لا تعدو كونها قضية فقهية فرعية تتعدّد فيها الأقوال، وكلّنا يؤخذ منه ويردّ عليه إلّا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والتسليم وآله وصحبه الغرّ الميامين.

اللهمّ اجعلني وأحبابي ممّن يؤلّفون بين القلوب، ويتقونك يا علام الغيوب.

والله تبارك اسمه أجلّ وأعلم.

وصلّى وسلّم وتفضّل وأنعم على سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه أهل الجود والكرم.