24/12/2011

السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته سيّدنا الشيخ.

لو سمحت عندي سؤال -والصراحة محيرني-: هل الزواج رزق من الله؟ وهل هذا الرزق يحتاج إلى سعي؟ وإذا فيه سعي كيف تسعى الفتاة إلى زواجها؟

وبارك الله فيك دكتور.

 

الاسم: د. نور

 

الرد:-

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.

الزواج نعمة من نعم الله جلّ في علاه، وكلّ نعمة هي من الله عزّ وجلّ الذي قال:-

{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [سورة النحل: 53].

وإضافة إلى ذلك فهو سنّة من سنن الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه أهل الصدق والوفا وكذلك المرسلين عليهم السلام.

قال عزّ من قائل:-

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [سورة الرعد: 38].

وقال صلّى الله تعالى وسلّم عليه وآله وصحبه في الحديث الشريف:-

(النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي، فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) الإمام ابن ماجه رحمه الله عزّ وجلّ.

وهو يحتاج إلى سعي كباقي النعم التي حثّنا الخالق جلّ جلاله على بذل الوسائل لنيلها، فقال سبحانه:-

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [سورة الملك: 15].

وقد قال سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم:-

(لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا) الإمام الترمذي رحمه الله جلّ في علاه.

فالحديث الشريف يشير إلى بذل الطيور مساعيها بطيرانها لتحصيل رزقها مع توكلها على الله جلّ جلاله وعمّ نواله، فأوّل الساعين هما الوالدان ثمّ وليّ الأمر.

أمّا سعي الفتاة لهذا الرزق فيبدأ أوّلا بالدعاء إلى الباري عزّ وجلّ أنْ يرزقها زوجًا صالحًا.

ثمّ يجب هنا أنْ نتوقف عند نقطة مهمة وهي ابتعاد مجتمعنا المسلم عن ثقافته الدينية المتوارثة واستبدالها بقيم وعادات غريبة عنه، فأصبح مَنْ يتزوّج بثانية يجابه بانتقاد واستهجان أقرب الناس إليه، وغاب عن عوائلنا اختيار الزوج المناسب لابنتهم وذلك بالتلميح أو التصريح، ومَنْ يفعل ذلك قد يلقى انتقادًا وكأنّه فعل ما يُعيب، ولو تصفحنا تاريخنا المشرق لرأينا كيف أنّ أمّنا خديجة الكبرى رضي الله سبحانه عنها عرضت نفسها على حضرة النبيّ صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم ليتزوّجها حين رأت فيه عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام ما ترجوه المرأة من صفات الزوج الصالح المؤتمن عليها، وقد صدّق القرآن الكريم تصرّفها فجاء قوله عزّ من قائل:-

{— وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ —} [سورة الأحزاب: 50].

وقد أقدم سيّدنا عمر بن الخطاب على عرض ابنته حفصة لتتزوّج من بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم وعنكم كما أورد ذلك الإمام البخاري رحمه الله سبحانه فقال:-

(حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ لَقِيَنِي، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، وَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا؟ قَالَ عُمَرُ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ، إِلَّا أَنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلْتُهَا).

وقصّة تزويج سيّدنا سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه لابنته آية عظيمة في تجسيد ما سبق: أنقلها كما وردت في مصادرها:-

(عَنِ ابْنِ أَبِي وَدَاعَةَ، قَالَ: كُنْتُ أُجَالِسُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَفَقَدَنِي أَيَّامًا فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ قَالَ: تُوُفِّيَتْ أَهْلِي فَاشْتَغَلْتُ بِهَا فَقَالَ: أَلَا أَخْبَرْتَنَا فَشَهِدْنَاهَا؟ قَالَ: ثُمَّ أَرَدْتُ أَنْ أَقُومَ فَقَالَ: هَلِ اسْتَحْدَثْتَ امْرَأَةً؟ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ وَمَنْ يُزَوِّجُنِي وَمَا أَمْلِكُ إِلَّا دِرْهَمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً؟ فَقَالَ: أَنَا، فَقُلْتُ: أَوَتَفْعَلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ حَمِدَ اللهَ تَعَالَى وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوَّجَنِي عَلَى دِرْهَمَيْنِ أَوْ قَالَ: ثَلَاثَةٍ قَالَ: فَقُمْتُ وَلَا أَدْرِي مَا أَصْنَعُ مِنَ الْفَرَحِ فَصِرْتُ إِلَى مَنْزِلِي وَجَعَلْتُ أَتَفَكَّرُ مِمَّنْ آخُذُ وَمِمَّنْ أَسْتَدِينُ فَصَلَّيْتُ الْمَغْرِبَ وَانْصَرَفْتُ إِلَى مَنْزِلِي وَاسْتَرَحْتُ وَكُنْتُ وَحْدِي صَائِمًا فَقَدَّمْتُ عَشَائِي أَفْطَرُ كَانَ خُبْزًا وَزَيْتًا فَإِذَا بِآتٍ يَقْرَعُ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: سَعِيدٌ قَالَ: فَتَفَكَّرْتُ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ اسْمُهُ سَعِيدٌ إِلَّا سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَّا بَيْنَ بَيْتِهِ وَالْمَسْجِدِ فَقُمْتُ فَخَرَجْتُ فَإِذَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَلَا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيَكَ قَالَ: لَأَنْتَ أَحَقُّ أَنْ تُؤْتَى قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُ؟ قَالَ: إِنَّكَ كُنْتَ رَجُلًا عَزَبًا فَتَزَوَّجْتَ فَكَرِهْتُ أَنْ تَبِيتَ اللَّيْلَةَ وَحْدَكَ، وَهَذِهِ امْرَأَتُكَ فَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ مِنْ خَلْفِهِ فِي طُولِهِ ثُمَّ أَخَذَهَا بِيَدِهَا فَدَفَعَهَا بِالْبَابِ وَرَدَّ الْبَابَ فَسَقَطَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْحَيَاءِ فَاسْتَوْثَقَتْ مِنَ الْبَابِ ثُمَّ قَدَّمْتُهَا إِلَى الْقَصْعَةِ الَّتِي فِيهَا الزَّيْتُ وَالْخُبْزُ فَوَضَعْتُهَا فِي ظِلِّ السِّرَاجِ لِكَيْ لَا تَرَاهُ ثُمَّ صَعَدْتُ إِلَى السَّطْحِ فَرَمَيْتُ الْجِيرَانَ فَجَاءُونِي فَقَالُوا: مَا شَأْنُكَ؟ قُلْتُ: وَيْحَكُمْ زَوَّجَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ابْنَتَهُ الْيَوْمَ وَقَدْ جَاءَ بِهَا عَلَى غَفْلَةٍ فَقَالُوا: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ زَوَّجَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ وَهَا هِيَ فِي الدَّارِ قَالَ: فَنَزَلُوا هُمْ إِلَيْهَا وَبَلَغَ أُمِّي فَجَاءَتْ وَقَالَتْ: وَجْهِي مِنْ وَجْهِكِ حَرَامٌ إِنْ مَسَسْتَهَا قَبْلَ أَنْ أُصْلِحَهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَالَ: فَأَقَمْتُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ دَخَلْتُ بِهَا فَإِذَا هِيَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ وَإِذَا هِيَ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ لِكِتَابِ اللهِ وَأَعْلَمِهِمْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْرِفِهِمْ بِحَقِّ الزَّوْجِ قَالَ: فَمَكَثْتُ شَهْرًا لَا يَأْتِينِي سَعِيدٌ وَلَا آتِيهِ فَلَمَّا كَانَ قُرْبُ الشَّهْرِ أَتَيْتُ سَعِيدًا وَهُوَ فِي حَلْقَتِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ وَلَمْ يكَلِّمْنِي حَتَّى تَقَوَّضَ أَهْلُ الْمَجْلِسِ فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ غَيْرِي قَالَ: مَا حَالُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ؟ قُلْتُ: خَيْرًا يَا أَبَا مُحَمَّدٍ عَلَى مَا يُحِبُّ الصَّدِيقُ وَيَكْرَهُ الْعَدُوُّ) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/167).

الله أكبر، إنّ الإنسان ليقف خاشعًا أمام هذه النصوص التي تجسّد معنى العبودية لله جلّ في علاه بأبهى صورها، فأين مسلمو اليوم من هذه المواقف؟

أين الأب الذي يشعر بمسؤوليته تجاه بناته؟

وأين الأم الرؤوم التي تشعر بمسؤوليتها تجاه بناتها؟

وأين الأخ؟

وأين العم والخال؟

إنّ الصور التي لها علاقة بالزواج (الخطوبة، العقد، الزفاف) تدمي القلب، فلا نكاد نسمع بمشروع زواج وقبل أنْ تكتمل فرحتنا نسمع بأخبار تؤذي قلوبنا وتجعلها حزينة مدّة مديدة، لأننا نرى تقصيرًا واضحًا من جميع الجهات التي لها علاقة بذلك الزواج، ونسأل الله عزّ وجلّ العافية والتوبة النصوح.

فيا أيها المسلمون والمسلمات: لكم فيما سبق من الأمثلة ومثيلاتها سنّة وعبرة يجب أنْ تحيوها وتذروا ما هو دخيل عليكم.

بقي أنْ أوصي الفتيات اللاتي يردن التلميح بالزواج ممّن ظننّ فيه الخير، التزام ضوابط الشرع الشريف، والتمسّك بالحياء والعفّة، فهو خير سبيل لطلب الزوج الصالح.

والله عزّ شأنه أعلم.

وصلّى الله تعالى وبارك وسلّم على سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.