2013/10/03

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :

سيّدي العزيز أتقدّم لكم بالشكر والتقدير على ما تبذله من جهد معنا حسيا” ومعنويا” وروحيا” اللهمّ أسألك بأسمائك الحسنى اللهمّ وأسألك بنبيّك وحبيبك المصطفى (صلى الله عليه وسلم) اللهمّ ارفع قدر شيخي سعد الله وارفع شأنه وأعل منزلته اللهمّ أعنه ومكنه على تبليغ الدين الحنيف اللهم آمين.

سيّدي: قبل أيام طرح موضوع بحث بعنوان (بنوك الحليب) لإحدى الطالبات في كلية الشريعة فدار النقاش على مستوى العوام فإذا هو بموضوع فقهي صعب جدا” .

سؤالي هو: هل السكوت عنه أولى لأنه لا يوجد في بلاد المسلمين مثل هذه البنوك؟

وما هو حكمه؟

وما هي الشروط التي يمكن أنْ تتبع في هذا المجال؟

أعتذر سيّدي على الإطالة، وجزاكم الله خير الجزاء.

 

 

الرد:

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته، أشكرك على دعواتك الكريمة وأدعو لك بمثلها.

الرضاعة أمر فطري مُحبب عند الأمهات على اختلاف أجناسهنَّ وأديانهنَّ، فبه يتعاظم الشعور بالأمومة ويتعلم الطفل الرضيع الحنان والرحمة والتعلق بجو الأسرة، ولأهمية هذا الموضوع، ولعدم قدرة بعض الأمهات على الإرضاع لأسباب مختلفة؛ دعت الحاجة لوجود مهنة إرضاع الصغار فعرف الناس المُرضعات منذ القدم، ولقد تشرّفت السيّدة حليمة السعدية رضي الله تعالى عنها بإرضاع خير البرية صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم بكرة وعشية.

وقبل أنْ نتكلم عن بنوك الحليب – التي أُنشأت في الغرب أواخر القرن المُنصرم – وهو موضوع قد أشبع علماء الإسلام المعاصرون رضي الله تعالى عنهم وعنكم فيه نقاشا وبحثا؛ لأنّ دراسة الأمور التي تُستحدث أمر طيب؛ وذلك لمعرفة حكم الشرع الشريف فيه، سيما أنّ المسلمين اليوم يتواجدون بكثرة في جميع بلاد العالم، ولاحتمال انتقال هذه الأفكار والتجارب إلى بلاد المسلمين بسبب سهولة تواصل الشعوب في الوقت الحاضر وتأثّر بعضها ببعض؛ ومِنْ هنا نقول:

ينبغي للمسلمين حفظهم الله تعالى أنْ يتمسّكوا بدينهم ويثقوا بحضارتهم ولا ينجرّوا سريعا خلف كلّ فكرة أو تجربة جديدة؛ فهم مُلزمون بالوفاء لتعاليم دينهم الحنيف؛ وعليه ينبغي لنا أنْ نَعْرضَ كلّ أمر جديد على ضوابط الشرع الشريف لبيان مدى توافقه معه، وشرعية تطبيقه؛ وذلك لاختلاف حضارة الغرب مع حضارة الإسلام الغرّاء، إذ لا مشكلة فيها بما يخرُم الأخلاق ويسيء للأنساب، بينما بُنيت حضارة الإسلام الغرّاء على الطُهر والعفة والمحافظة عليها، ومِنَ المناسب هنا أنْ نتشرّف بقول أحسن الناس حسبا ونسبا، سيّدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم القائل (أوّل ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليصلينّ النساء وهنَّ حيض، ولتسلكنّ طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقهم…) الإمام الحاكم رحمه الله تعالى.

بنوك الحليب: مؤسسات تقوم بجمع لبن الأمهات مقابل أجر معلوم أو بتبرع منهنَّ، ويحفظ ذلك اللبن ليُعطى بعد ذلك لِمَن يحتاج إليه من الصغار الرُضّع.

لقد اختلف فقهاء الإسلام رضي الله تعالى عنكم وعنهم في تعريف الرضاعة الواردة في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ…} [سورة البقرة/من الآية233]، فمِنهم مَنْ قال بأنّ الرضاعة هي أنْ يلتقم الصبيّ ثدي أمّه ويرضع منه مباشرة، ومنهم مَنْ قال بأنّ الرضاعة هي وصول لبن الأم إلى جوف الصبيّ على أيّ حال؛ ومِنْ هنا ظهر الخلاف وترتّب عليه اختلاف الحكم المُناط بهذه المسألة، فكما هو معلوم أنّ الرضاعة سبب مِنْ أسباب تحريم الرجل على المرأة؛ فبالرضاعة مِنْ أمّها يصير أخاها لقوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ…} [سورة النساء/من الآية 23]، ولقوله صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم  فِي بِنْتِ سيّدنا حَمْزَةَ رضي الله تعالى عنهما (لَا تَحِلُّ لِي يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ هِيَ بِنْتُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ) الإمام البخاري رحمه الله تعالى.

الرضاعة إذن أمرٌ لا يُستهان به أبدا؛ ويُبنى عليه حُكمٌ كبيرٌ وخطيرٌ، فالصبيّ الذي يرضع مِنْ امرأة تصير بالرضاعة له أمّا، ويصبح زوجها الذي كان بسببه لبَنُها أباه، وهكذا ينساب حكم التحريم على بقيّة الأرحام، فكأنّ الطفل الرضيع دون إخوته الآخرين قد التحق بهذه العائلة بسبب الرضاعة، التي اختلف العلماء رضي الله تعالى عنهم وعنكم أيضا في عدد الرضعات التي تُوجب هذا التحريم؛ وبسبب اختلاف الفهم للنصوص الشرعية وتعدد بعضها كان الاختلاف في الحُكم؛ وعلى وفق هذا الاختلاف كان اختلاف العلماء المعاصرين رضي الله تعالى عنهم وعنكم في حُكم بنوك الحليب وذلك على أقوال ثلاثة هي:

القول الأول: يُحرم إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي، ويحُرم الرضاع منها، وهو الذي قرّره مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدّة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406 هجرية، الموافق 22 – 28 ديسمبر 1985 ميلادية.

القول الثاني:  يجوز إنشاء بنوك الحليب، والرضاعة منها، وهو قول بعض المعاصرين من أهل العلم رضي الله تعالى عنهم وعنكم.

القول الثالث: على فرض وجود حاجة مُلحّة إلى إنشاء هذه البنوك يُطالب بوضع احتياطات مشددة لها، منها: أنْ يُجمع الحليب ويتمّ أخذه من المرضعات في أواني منفصلة، وأنْ يكتب على كلّ قارورة اسم المتبرعة بحيث تُعرف صاحبة كلّ حليب، ويُسجّل في السجل اسم الطفل الذي تناول هذا الحليب، ويتمّ إثبات واقعة الرضاع في سجلات محفوظة مع إشعار ذوي الشأن، ويعلم أهل الطفل اسم هذه المرضعة؛ حرصاً على عدم تزاوج من بينهم علاقة رضاعية محرّمة، وبذلك ينتفي المحذور.

وبعد هذا العرض نقول وبالله تعالى التوفيق: إنّ ترك هذا الأمر أولى للأسباب الآتية:

أولا: الأمر فيه شُبهة ونحن مأمورون بالابتعاد عن كلّ شُبهة لقول سيّدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ) الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وقوله أيضا (إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) الإمام مسلم رحمه الله تعالى، خصوصا وأنّ الأمر يتعلق بالأنساب وهي مِنَ الضرورات التي جاءت مقاصدُ الشريعة الغرّاء لحفظها.

ثانيا: لا يخلو أنْ يكون الدافع مِنْ إنشاء هذه البنوك هو العائد المادي، فقد سُميت هذه المؤسسات بنوكا منذ البداية، والمردود المادي هو غاية قصد حضارة الغرب التي بُنيت على أساسها بغض النظر عن الضوابط والقيم الإنسانية، كما أنّ على المسلم أنْ يكون كما وصفه نبيّه الكريم عليه مِنَ الله تعالى أفضل صلاة وتسليم وعلى آله وصحبه أجمعين (المؤمن كيّس فطن حذر) الإمام القضاعي رحمه الله تعالى، فأعداء الإسلام يُروِّجون لكلّ أمر يعود بالضرر على أمّة الإسلام وهم يحسدون الأمّة على شرفها وحُرمة الأرحام والأنساب فيها؛ فهم لذلك يعملون جاهدين لمحو القيم الإسلامية الكريمة، وطمس الأخلاق الفاضلة النبيلة.

ثالثا: مِنَ المعلوم أنّ اللبن يتكوّن في ثدي الأمِّ تباعا بحسب غذائها؛ وبذا فإنّ عملية الحصول على لبن الأمهات وتجميعه وحفظه أمر صعب ومُكْلِف فنيا وتقنيا، ويتطلب وقاية صحيّة عالية لضمان عدم تلوّث اللبن أو تلفه، وقبل ذلك ضمان سلامة الأم التي يُؤخذ منها اللبن، كما أنّ إدارة هذا المشروع تتطلب دقة عالية وأمانة رفيعة؛ لضمان عدم اختلاط اللبن؛ على رأي مَنْ قال بحصول النسب مِنَ الرضاع بمجرد دخول اللبن إلى جوف الطفل .

رابعا: ليس في الأمر ضرورة مُلحّة، فلطالما اكتفى الأطفال الخُدج أو غيرهم ـ مِمّنْ حُرموا الرضاعة مِنَ أمهاتهم لسبب ما ـ بالحليب المُجفّف المُصنّع خصيصا للأطفال، كما أنه مدعاة لتقاعس الأمهات عن إرضاع أولادهنَّ،  ونحن مُطالبون بنشر ثقافة رضاعة الأمهات لأنها الموافقة لفطرتهنّ وفطرة أبنائهنّ على حدٍّ سواء، والأسلم لهم وللمجتمع شرعيا ونفسيا وصحيا واجتماعيا واقتصاديا.

نسأل الله تعالى للجميع الثبات في الدّين والسداد في الأمر، وأنْ يرزق نساء المسلمين نعمة الأمومة الصالحة كأسلافهنَّ الصالحات، فقد كان منهنَّ مَنْ لا تُرضع صغيرها إلا إذا كانت متوضئة، فرضي الله تعالى عنهنَّ وعنكم.

والله تعالى أعلم.