مشاركة من فضيلة الشيخ مثنى جزاه الله تعالى خيراً

 2014/01/12

بسم الله الرحمن الرحيم

:: مولد الربيع ::

لقد بيّن الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم أنّ فضله على حبيبه ومصطفاه صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم عظيم فقال سبحانه {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].

ومن ذلك الفضل أنْ جعل يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل هو يوم ولادة النبيّ عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام وهو ذاته يوم انتقاله إلى الرفيق الأعلى وذلك حتماً لحكم كثيرة منها:

* لأجل أنْ تتذكّر الأمّة يوم ولادته ولا تتذكّر يوم وفاته ولهذا عندما يأتي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كلّ عام نحتفل بذكرى مولده صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم ولا نستذكر وفاته لأنّه صلوات ربّي وسلامه عليه وآله وصحبه حيٌّ في قلوبنا قريبٌ منا بروحه الشريف يسمع صلاة وسلام مَنْ يُصلّي ويُسلّم على حضرته بل ويردّ عليه السلام ويستغفر للمذنبين من أمّته وهو في قبره الشريف فهو القائل (تعرض عليّ أعمالكم فإن رأيت خيراً حمدت الله وإن رأيت غير ذلك استغفرت لكم) الإمام البزار وصححه الحافظ العراقي والهيثمي والقسطلاني والزرقاني والعلامة علي القاري والشهاب الخفاجي والسيوطي رحمهم الله تعالى.

وهو القائل أيضاً (عرضت عليّ أمتي البارحة لدن هذه الحجرة حتى لأنا أعرف بالرجل منهم من أحدهم بصاحبه, فقال رجلٌ من القوم: يا رسول الله هذا عرض عليك من خلق منهم أرأيت من لم يُخلق؟ قال : صوِّروا لي فو الذي نفسي بيده لأنا أعرف بالإنسان منهم من الرجل بصاحبه) الإمام الطبراني رحمه الله تعالى.

وقال أيضاً (إنّكم تعرضون عليّ بأسمائكم ومسمّاكم فأحسنوا الصلاة عليّ) الإمام عبد الرزاق رحمه العزيز الخلاق سبحانه.

* ثمّ إنّ الله تبارك وتعالى قدّر أنْ يكون مولد الحبيب صلى الله وسلم على ذاته وصفاته وآله وصحابته في شهر يسمى بالربيع ليثير في نفوسنا المعاني الجميلة والجليلة لهذا الاسم فالعرب تستخدم لفظة الربيع في معانٍ كثيرة منها: النهر، والمطر، والسعادة والتفاؤل، والأمل، والبهجة، والسرور، والفرح.

كما أنّ فصل الربيع أعدل الفصول وأحسنها إذ ليس فيه برد مزعج ولا حرّ مقلق، وليس في ليله ولا نهاره طول خارق، بل كله معتدل وفصله سالم من العلل والأمراض والعوارض التي يتوقعها الناس في أبدانهم في زمان الخريف، بل الناس فيه تنتعش قواهم وتنصلح أمزجتهم وتنشرح صدورهم لأنّ الأبدان يدركها فيه من أمداد القوة ما يدرك النبات حين خروجه، إذ منها خلقوا، فيطيب ليلهم للقيام ونهارهم للصيام، لما تقدم من اعتداله في الطول والقصر والحر والبرد، فكان في ذلك شبه الحال بالشريعة السمحة التي جاء بها صلوات الله وسلامه عليه من رفع الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (1/ 337).

وهذا ما يجعل الإنسان يشعر بالراحة والاطمئنان ولهذا كان سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله عزّ وجلّ فيقول (ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهمّ إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيّ حكمك عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أنْ تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي، إلا أذهب الله همّه وحزنه وأبدله مكانه فرجا، فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: بلى، ينبغي لمَنْ سمعها أنْ يتعلّمها) الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

الربيع عند العرب ربيعان: ربيع الشهور وربيع الأزمنة, فربيع الشهور شهران: وهما ربيع الأول الذي ولد فيه النبيّ عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام, وربيع الثاني وكلاهما يأتي بعد شهر صفر.

أما ربيع الأزمنة فربيعان أيضاً: ربيع الكمأة (ربيع الكلأ)، والربيع الذي تدرك فيه الثمار.  لسان العرب مادة (ربيع)

من جهة أخرى: كلنا يعلم أنّ اليوم الذي ولد فيه سيّدنا رسول الله صلى الله تعالى وسلم عليه وآله وصحبه ومَنْ والاه هو يوم الاثنين فسألت نفسي: هل مِنْ علاقة بين الربيع بما يحمل من معاني ويوم الاثنين؟ فبدأت أبحث فوجدت أنّ العلاقة قوية ووثيقة أفصح عنها صاحب الذكرى صلى الله تعالى وسلم عليه وآله وصحبه أهل الذكر والتقوى إذ قال (خلق الله عزّ وجلّ التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثّ فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل) الإمام مسلم رحمه الله جلّ وعلا.

فالشجر خلقه الله تبارك وتعالى يوم الاثنين والربيع هو الشهر الذي تتفتح فيه الأزهار وتورق فيه الأشجار, فمولد النبيّ صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم ربيع القلوب وربيع الزمان كيف لا وقد نقل إلينا أهل السير عن السيّدة حليمة السعدية رضي الله تعالى عنها حين أتت مكة فأخذته وذهبت به إلى قومها وديارها وهي تقول (قدمنا أرض بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فإنْ كانت غنمي لتسرح ثمّ تروح شباعا) البداية والنهاية للحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى (2/274)، فما أنْ وصل إليها رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم وعلى آله وصحبه أجمعين حتى تحوّل جدبها مروجاً خضراء وصدق القائل:

ربيعك صيَّر الدنيا ربيعـــا                                       وبثَّ على جوانبها الشموعـــا

ربيعك يا أبا الزهراء نــورٌ                                       يزيد على مدى الدنيا سطوعا

* وقد قدّر الله تبارك وتعالى أيضاً أنْ يكون الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل تحديداً مولد حبيبه صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم فلو تأملنا في هذا وحاولنا أنْ نقترب من الحكمة من ذلك اهتدينا إلى قول ربنا جلّ وعلا {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ —} [التوبة: 36]، فكأنّ الله تبارك وتعالى يقول لنا: إنّ هذا اليوم (الثاني عشر) يعادل أشهر السنة كلّها فيجب أنْ نتذكر النبيّ عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام لا يوم مولده فقط بل الواجب أنْ نذكره السنّة كلها فإذا انتهت أقبل علينا الثاني عشر من شهر ربيع الأول ليذكرنا بحضرته من جديد, فالواجب إذنْ أنْ نبقى متذكرين لهذا النبيّ الكريم عليه الصلاة والتسليم وآله وصحبه المكرمين مهما اختلف الزمان وطالت المدة ولعلّ هذا هو السبب الذي من أجله قدّر الله تبارك وتعالى أن يرتبط مولد حبيبه صلى الله تعالى وسلم عليه وآله وصحبه بالحوادث التاريخية التي لا يمكن أنْ تغيب عن أذهان الأمّة قديماً أو حديثاً سلفاً وخلفاً الحوادث التي لا تنسى والتي خلّد القرآن الكريم ذكرها في سورة وقصة كلنا يحفظها الصغير والكبير هذه السورة هي سورة الفيل, فمولد النبيّ عليه الصلاة والسلام ولد في عام يسمى عام الفيل.

* كما شاء الحكيم عزّ وجلّ أنْ يكون هذا الشهر الزمن لولادته ولم يختر غيره من الشهور المعروفة بفضلها ومكانتها كشهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وفيه ليلة القدر، واختص بفضائل عدة، ولا في الأشهر الحرم التي جعل الله لها الحرمة يوم خلق السموات والأرض، ولا في ليلة النصف من شعبان، ولا في يوم الجمعة ولا في ليلتها ، وذلك لتتشرف بحضرته الأزمنة لا هو مَنْ يتشرف بها، فلو ولد صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم في الأوقات المتقدّم ذكرها لكان قد يتوهم أنّه يتشرّف بها فجعل الحكيم جلّ جلاله وعمّ نواله مولد حبيبه ومصطفاه صلى الله تعالى وسلم عليه وآله وصحبه ومَنْ والاه في غيرها ليظهر عظيم عنايته سبحانه وتعالى به وكرامته عليه.

اللهمّ صلّ على سيّدنا محمّد صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا، وصلّ عليه صلاة تكون سببا في حبه وزيادة في قربه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.

الرد:

جزاك الله جلّ وعلا كلّ خير على هذه المشاركة المباركة، وأسأله سبحانه أنْ يفتح لك من خزائن علمه ويوفقك للمزيد خدمة لهذا الدين العظيم، إنّه تبارك اسمه الموفق والهادي إلى سواء السبيل.