2015/06/28
السؤال:
فضيلة الشيخ الدكتور سعد الله عارف حفظكم الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
فضيلة الشيخ ما حكم من حلف بالله ويده على المصحف وقال” اقسم بالله العظيم والذي له الأسماء الحسنة أني لا أتذكر أني قلت كذا أو فعلت كذا.” وهو كاذب في حلفه عامد متعمد الكذب ويتذكر جيداً ما حلف عليه أنه لا يتذكره. وعلى ما أظنّ أنّه يستشهد بما جاء في كتاب الأيمان والنذر في صحيح البخاري: أنّ اليمين المرجوحة لا تنعقد تنحل إذا تعلقت براجح. وأنّ لفظ لا أتذكر من الألفاظ المرجوحة وأنّ هذا اليمين لا ينعقد لأنّه قال لا أتذكّر أثناء الحلف.
فضيلة الشيخ جزاكم الله خيرا، أرجو من سماحتكم التوضيح لأنّ هذا الشخص استخدم هذا الحلف ضدي مرتين واقتطع حقي ظلماً وعدواناً واتهمني بأنّي كاذب باستخدامه هذا الحلف بهذه الصيغة ضدي وهو الكاذب. حيث أني لم أكن أعلم شيئا عن اليمين المرجوحة وكنت أصدق حلفه في كلّ مرة. إلا بعد أنْ تكرر حلفه بلفظ لا أتذكر.
وتعجبت من جرأته على المصحف وعلى الحلف بالله بلا خوف ولا رهبة وأنا متأكد أنه كاذب. إلى أنْ قلت له ذات مرة “إنك حلفت بالله وبالقرآن وإنّ القسم أمره عظيم ويهلكك بالدنيا والآخرة فأجابني أنه يحلف إنه لا يتذكر ولم يحلف أنه لم يفعل. لأنه يرفض أنْ يحلف بلفظ لم أفعل. عندها علمت أنه يقصد اليمين المرجوحة. ولم أواجهه بالأمر إلى الآن. فقط صدقت حلفه.
هل هذه اليمين يمين غموس لأنّه كاذب ويعتقد في قرارة نفسه أنّها لا تنعقد؟ أرجو من سماحتكم بيان الحكم الشرعي وكذلك نصحي لأنّي صاحب حق وقد ظُلِمت وتحملت هذه المظلمة تعظيماً لاسم الله عزّ وجلّ.
وجزاكم الله الخير كله.
الاسم: طلال
الرد:-
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.
أشكرك على تواصلك مع هذا الموقع المبارك، وعلى حرصك على دين الله عزّ وجلّ.
الحلف بالله جلّ وعلا أمره خطير، ولا ينبغي للمسلم أنْ يتساهل في شأن اليمين ويكثر منه، بل يجب عليه تركه إلّا عند الحاجة الضرورية، فقد ذمّ الله تبارك اسمه المكثرين منه فقال:-
{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [سورة القلم: 10].
أمّا إذا حلف كذبًا، ويستخدم كلامًا للتمويه بقصد الإضرار بالآخرين فهذا يسمّى باليمين الغموس.
واليمين الغموس: هي المحلوفة على ماض مع كذب صاحبها وعلمه بالحال.
كأن يقول: والله ما فعلت كذا، وهو يعلم أنّه فعله، أو: والله ما لك عليّ دَيْن، وهو يعلم أنّ للمخاطب دَيْنًا عليه. الموسوعة الفقهية الكويتية (7/ 282).
ويقول الشيخ ابن تيمية رحمه ربّ البرية:-
(والراجح أنه لا يشترط أنْ يكون المقصود من اليمين الغموس اقتطاع مال إمرئ مسلم بل يشمل ما لو أراد ذلك أو غيره).
وهذه اليمين من الكبائر لأنّ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم قال:-
(الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ) الإمام البخاري رحمه الباري جلّ وعلا.
وسمّيت غموسًا، لأنّها تغمس صاحبها في الإثم ثمّ في النار -عياذًا بالله تبارك وتقدّس- وهذه اليمين أكثر ما يقع من الذين يقتطعون أموال الناس بالباطل والذين يبيعون ويشترون، ليغرروا بها، وليصدقوهم وليروّجوا سلعهم بذلك، وقد قال النبيّ عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام:-
(الحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ) الإمام البخاري رحمه الباري جلّ جلاله.
فمَنْ حلف كذبا ليقتطع به مال امرئ وجبت له النار وحرّمت عليه الجنة، فقد قال سيّدنا رسول الله صلى الله تعالى وسلّم عليه وآله وصحبه ومَنْ والاه:-
(مَنْ حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حق فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنّة —) الإمام مسلم رحمه المنعم جلّ شأنه.
وهذا الوعيد باليمين الكاذب ينطبق على أي شيء صغيرًا كان أم كبيرًا لقول النبيّ الأكرم صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم في تتمّة الحديث الشريف أعلاه:-
(— فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ) الإمام مسلم رحمه الله سبحانه.
وقد يلجأ البعض إلى الحلف على أمر آخر يضمره في صدره غير الأمر الذي يحلف من أجله، وهذا الفعل لا يعتد به لأنّ اليمين تنعقد على نيّة المستحلف لا على نيّة الحالف، لأنّه صاحب الحق إذا تعلّق بها حقّ لغيره فإنّ النيّة فيها تكون حينئذ للمستحلف -أي: المحلوف له- لقول سيّدنا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه وآله وصحبه:-
(يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ) الإمام مسلم رحمه الله جلّ ذكره.
وفي رواية قال:-
(الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ) الإمام مسلم رحمه الله جلّ في علاه.
وهذا الحلف إضافة إلى كونه يمين غموس فهو داخل في قول الزور وهو من أكبر الكبائر لقوله عليه الصلاة والتسليم وآله وصحبه المكرمين:-
(أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا، حَتَّى قُلْتُ: لاَ يَسْكُتُ) الإمام البخاري رحمة الله سبحانه.
وليست لها كفّارة على رأي الجمهور رضي الله تعالى عنهم وعنكم، يعني لم يشرّع لها كفّارة ماليّة أو بدنية كالصيام، وإنّما كفّارتها التوبة إلى الله جلّ في علاه، والندم على ما حصل منه، وردّ المظالم إلى أهلها، وعدم العودة إليها مرّة أخرى.
قال الشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه أِعلام الموقعين عن رب العالمين:-
(وما كان من المعاصي محرم الجنس كالظلم والفواحش فإن الشارع لم يشرع له كفارة، ولهذا لا كفارة في الزنا وشرب الخمر وقذف المحصنات والسرقة، وطرد هذا أنه لا كفارة في قتل العمد ولا في اليمين الغموس كما يقوله أحمد وأبو حنيفة ومن وافقهما، وليس ذلك تخفيفا عن مرتكبهما، بل لأنّ الكفارة لا تعمل في هذا الجنس من المعاصي، وإنّما عملها فيها فيما كان مباحا في الأصل وحرّم لعارض كالوطء في الصيام والإحرام).
أمّا قوله لا أتذكّر، أو أنّ اليمين مرجوحة، فهذا لا يعتدّ به، لأنّ الأعمال بالنيّات، وتترتب عليه يمينٌ غموسٌ.
وأرجو أنْ تبيّن له بالحكمة والموعظة الحسنة عظيم هذا الفعل وأنّه سبب لوروده النار وغضب الله عزّ وجلّ، لعلّه يتوب ويرجع، وأنّ المال لا ينفعه حينئذ، وذكّره بآيات القرآن الكريم التي تتوعّد العاصين كقوله تبارك وتقدّس:-
{— يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} [سورة المعارج: 11- 14].
وذكّره بأحاديث اليمين الغموس، وأكل المال الحرام، وأنّ متاع الدنيا زائل، وأنّ المال الحرام يذهب ويذهب أهله.
ثمّ فوّض أمرك إلى الله سبحانه فهو حسبك ونعم المولى ونعم النصير، لأنّ مَنْ صبر على ظلم أعزّه الله تعالى، فعن سيّدنا أبي كبشة الأنماري رضي الله تعالى عنه:-
(أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ: إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ) الإمام الترمذي رحمه المغني جل وعلا.
وقد صدق القائل:-
الْـمَـالُ يَـذْهَـبُ حِـلُّـهُ وَحَـرَامُهُ *** يَـوْمًــا وَتَـبْـقَـى فِـي غَــدٍ آثَـامُـه
لَـيْـسَ الـتَّـقِــيُّ بِـمُـتَّـقٍ لِإِلَـهِــهِ *** حَتَّى يَـطِـيـبَ شَـرَابُـهُ وَطَـعَـامُه
وَيَطِيبَ مَا يَحْوِي وَيَكْسِبُ كَفُّه *** وَيَكُونَ فِي حُسْنِ الْحَدِيثِ كَلَامُه
نَـطَـقَ النَّـبِـيُّ لَـنَـا بِهِ عَـنْ رَبِّه *** فَـعَـلَى النَّـبِـيِّ صَـلَاتُـهُ وَسَـلَامُه
وأرجو مراجعة جواب السؤال المرقم (2043) في هذا الموقع الميمون.
والله تبارك اسمه أعلم.
وصلّى الله تعالى وسلّم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.