2020-04-11
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
جزاكم الله تعالى كلّ خير على ما تنشروه في هذا الموقع من نفع عظيم للناس أجمعين.
سيّدي الكريم إنّ الظروف التي يعيشها العالم اليوم بسبب وباء كورونا جعلت الكثير منهم لاسيما المسلمون يخافون من الموت ويبالغون في الهروب منه، فما توجيه حضرتكم لهذه الظاهرة؟

الاسم: عماد.

الرد:
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.
جزاك الله جلّ وعلا خيرا على تواصلك ودعائك، وأسأله عزّ شأنه أنْ يكرمك بما هو أهله، إنّه سبحانه هو أهل التقوى وأهل المغفرة.
إنّ الله عزّ وجلّ جعل الموت نهاية المرحلة الدنيوية من حياة الإنسان، فإذا حضر لا يستطيع أحد دفعه مهما بلغت قوّته أو سلطته أو مكانته، قال الحقّ جلّ وعلا:
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ —} [النساء: 78].
وَعَنْ سَيِّدِنَا سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ:-
(جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ) الإمام الحاكم رحمه الله سبحانه.
ورحم الله جلّ وعلا أبا العتاهية إذ قال:-
الموْتُ بَـابٌ وكلُّ النَّاسِ داخِلُهُ *** يَا ليْتَ شِعْـرِيَ بَعْدَ البَابِ مَا الدَّارُ
الدَّارُ جنَّةُ خُـلـدٍ إنْ عَمِلْـتَ بِمَا *** يُرْضِي الإلَهَ، وَإنْ قَصّرْتَ، فَالنّارُ
هُمَا مَحِلَّانِ مَا لِلنَّاسِ غَيْرُهُـمَا *** فَانْـظُـرْ لِـنَـفْـسِـكَ مَاذَا أَنْتَ تَخْـتَـارُ

وأرى من الضروريّ أنْ أذكر حقائق أخرى عن الموت:-
أوّلا: هو خلق من مخلوقات الله جلّ في علاه القائل:-
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك :2].
وقال سيّدنا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم:-
(يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ. قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}) الإمام مسلم رحمه المنعم جلّ جلاله.
فالنصوص الشريفة تؤكّد أنّه خلقٌ لكنّا نجهل حقيقته ونعرف آثاره، فهو سرٌّ من أسرار الله تبارك اسمه، حاله كحال الحياة، قال سيّدي حضرة الشيخ عبد الله طيّب الله جلّ وعلا روحه وذكره وثراه:-
(الحياة كالممات هي في حقيقتها سرٌّ جعله الله تبارك وتعالى من أخفى الأسرار، وجعل من ظواهرها وآثارها ما هو من أجلى البديهيات. أنت حيّ تسمع وتبصر وتشمّ وتلمس وتذوق، وتأكل وتعمل وتسعى وتتحرّك. ثمّ إذا نظرت إلى جثمان إنسان قد مات رأيتَه قد فَقَدَ تلكم السمات الظاهرات، وانقلب جسدا ليس يوجد فيه حياة، كلوح من خشب أو مرمر آيل إلى تراب أو رفات. فإنْ كنتَ لم تر قطّ ميتا فاجتهد أنْ ترى -فليس مَنْ رأى كمَنْ سَمِعَ- وإنْ كان السماع كما هنا بالعينين) معالم الطريق في عمل الروح الإسلامي ص55.

ثانيا: اتجه الباحثون عن حقيقة الموت إلى أنّها:-
أ- انقطاع تعلّق الروح بالبدن ومفارقتها له.
ب- هو تبدّل علاقة الروح بالبدن.
وهذا هو الذي أرجّحه (ب) لأنّه يتوافق مع نصوص الشرع الشريف.
فالإنسان بعد الموت إمّا منعّم، وإمّا معذّب، روحا وجسدا. قال الله تعالى في آل فرعون:-
{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].
وقال عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام:-
(— فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ—) الإمام مسلم رحمه المنعم تقدست أسماؤه.
وقال صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم في المؤمن:-
(— فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ. قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا، وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ —) الإمام أحمد رحمه الممجد جلّ جلاله.
ومن هنا ينبغي على المؤمن أنْ ينظر إلى الموت نظرة يقين، وأنَّ ما بعده عالم شهادة، فالموت ليس عدمًا محضًا، إنّما هو وسيلة ومرحلة ينتقل بها الإنسان من الحياة الدنيا الفانية إلى الحياة الحقيقية الباقية والتي ينبغي أنْ يسعى إلى السعادة فيها، قال عزّ وجلّ:-
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمن: 100].
وقال سيّدنا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم:-
(إِنَّ القَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلاَّ وَالقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ) الإمام الترمذي رحمه الله سبحانه.
ورحم الله تعالى الإمام الغزالي إذ قال:-
لَا تَـظُـنُّـوْا المَـوْتَ مَوْتًا إِنَّهُ *** لَحَـيَـاةٌ وَهُوَ غَـايَـاتُ المُنَى
لَا تَرُعْكُمْ هَجْمَةُ المَوْتِ فَمَا *** هِيَ إِلَّا نَقْلَةٌ مِنْ هَا هُنَا

ثالثا: الخوف من الموت نسبة منه أمرٌ طبيعيّ، فالإنسان بفطرته يبحث عن الخلود، ومن هنا دخل إبليس لعنه الله سبحانه على سيّدنا آدم عليه السلام، قال جلّ وعلا:-
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120].
فحبّ الحياة غريزة تدفع لعمارة الأرض وتحقيق وظيفة الخلافة فيها، هذا من جانب.
ثمّ لأنّه مصيبة تحلّ بالإنسان، قال الله جلّ ذكره:
{فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106].
فالخوف منه قسمان: محمود ومذموم.
أمّا المحمود فهو الناتج عن الشعور بالتقصير في طاعة الله جلّ في علاه، أو خشية الوقوف بين يديه سبحانه، أو يكون بسبب جهله بما سيؤول إليه أمره، هل إلى الجنّة أم إلى النار؟
فيدفعه الخوف إلى المحاسبة والمجاهدة حتى يُهدى إلى طريق السلامة.
أمّا المذموم فهو الخوف الناتج عن التعلّق بالحياة الدنيا والكفر بالآخرة، وهذا من صفات أهل الضلال، قال ذو العزّة والجلال:-
{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 94 – 96].
ولمزيد ثقافة في هذا الموضوع أرجو مراجعة الأجوبة المرقمة (1389، 1408، 2402، 2452) في هذا الموقع الكريم.
وكذا الخوف الذي يوصل صاحبه إلى اليأس والقنوط، قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى وهو يتحدّث عن الخوف بشكل عام:-
(والمذموم فهو الذي يجاوز حدّ الاعتدال حتى يُخرج إلى اليأس والقنوط فيمنع من العمل، وقد يُخرج إلى المرض والضعف، وإلى الوله والدهشة وزوال العقل، وقد يخرج إلى الموت). إحياء علوم الدين (4/157) بتصرّف.
لكن إذا تشرّف الإنسان بالإيمان وتتلمذ في مدرسة القرآن الكريم وتربّى في رياض هدي النبيّ عليه الصلاة والتسليم وآله وصحبه أجمعين فإنّ نظرته للموت ستختلف إلى الحدّ الذي أخبر عنه عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام فقال:-
(تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتُ) الإمام الطبراني رحمه الله جلّ جلاله.
وَالتُّحْفةُ: آثَارٌ وَأَدَوَاتٌ لَهَا قِيمَةٌ تَارِيخِيَّةٌ أَوْ فَنِّيَّةٌ، أو: الطُّرْفةُ من الفَاكِهَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الرَّيَاحِيْنَ.
ثمّ إنّ لكلٍّ حظّه من استحلاء مرارة الموت حسب إيمانه وتقواه، وحسن ظنّه بمولاه جلّ في علاه، لأنّ المؤمن إذا تفاعل مع قضايا الإيمان فإنّ التكاليف يراها تشريفا، ومرارة الشدائد يتذوّقها حلوا سلسبيلا، ومن هنا ورد عن كثير من السلف الصالحين رضي الله تعالى عنهم وعنكم مثل هذه التصاريح والأقوال:-
(حَبِيْبٌ جَاءَ عَلَى فَاقَةٍ لَا أَفْلَحَ مَنْ نَدِمَ، وَافَرْحَتَاهُ غَدًا نَلْقَى الأَحِبَّةَ مُحَمَّدًا وَصَحْبَهُ، صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ).
ويلتقي حال الخَلَفِ مع حال السَّلَفِ فَأَرْوِي سماعا عن سيّدي حضرة الشيخ عبد الله الهرشمي طيّب الله تعالى روحه وذكره وثراه:-
(المَوْتُ أَجْمَلُ مَا فِي الحَيَاةِ، لَوْلَا المَوْتُ لَمَا أَطَقْتُ الحَيَاةَ).
ولا يعني هذا تمنّي الموت فقد نهى سيّدنا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه وآله وصحبه عن ذلك إذ قال:-
(لاَ يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ وَلاَ يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ وَإِنَّهُ لاَ يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلاَّ خَيْرًا) الإمام مسلم رحمه المنعم تبارك في علاه.
وفي رواية أخرى قال:-
(لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ؛ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ) الإمام البخاري رحمه الباري تقدّست أسماؤه.
ويُستثنى من ذلك حالتان-:
الأولى: إذا خَشِي على دينه من الفتنة، كما في حديث سيّدنا عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما الطويل، وفيه: قول النَّبيِّ صلّى الله تعالى وسلّم على ذاته وصفاته وآله وصحابته:-
(— وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً؛ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ —) الإمام أحمد رحمه الفرد الصمد جلّ وعلا.
الثانية: إذا كان موته شهادة في سبيل الله جلّ جلاله وعمّ ونواله، قال صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم:-
(وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ) الإمام البخاري رحمه الله عزّ وجلّ.
إنّ أهل الإيمان ينظرون إلى الموت نظرة إيجابية، وبالتالي فإنّ خوفهم الفطريّ منه يتخفّف، لأنّهم يعلمون علم اليقين بأنّه باب إلى رحمة رب العالمين جلّ جلاله، وسبب للتشرّف بعالم الشهادة (أي رؤية ما آمن به غيبا حقّا واقعًا مشاهدًا) قال الله جلّ في علاه:-
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].
قال كثير من المفسّرين رحمهم الله تعالى: اليقين هنا الموت.
ولهذا حثّ سيّدنا رسول الله صلّى الله تعالى وسلّم عليه وآله وصحبه ومَنْ والاه، على الإكثار من ذكر الموت، ذاك لمّا دخل عليهم وهم يكتشرون، أي يضحكون أو يبتسمون.
فعن سيّدنا أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال:-
(دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَلاَّهُ فَرَأَى نَاسًا كَأَنَّهُمْ يَكْتَشِرُونَ قَالَ: أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ أَكْثَرْتُمْ ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى، فَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى القَبْرِ يَوْمٌ إِلاَّ تَكَلَّمَ فِيهِ فَيَقُولُ: أَنَا بَيْتُ الغُرْبَةِ وَأَنَا بَيْتُ الوَحْدَةِ، وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ، وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ، فَإِذَا دُفِنَ العَبْدُ الْمُؤْمِنُ قَالَ لَهُ القَبْرُ: مَرْحَبًا وَأَهْلاً أَمَا إِنْ كُنْتَ لأَحَبَّ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ، فَإِذْ وُلِّيتُكَ اليَوْمَ وَصِرْتَ إِلَيَّ فَسَتَرَى صَنِيعِيَ بِكَ قَالَ: فَيَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الجَنَّةِ. وَإِذَا دُفِنَ العَبْدُ الفَاجِرُ أَوِ الكَافِرُ قَالَ لَهُ القَبْرُ: لاَ مَرْحَبًا وَلاَ أَهْلاً أَمَا إِنْ كُنْتَ لأَبْغَضَ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ، فَإِذْ وُلِّيتُكَ اليَوْمَ وَصِرْتَ إِلَيَّ فَسَتَرَى صَنِيعِيَ بِكَ قَالَ: فَيَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَلْتَقِيَ عَلَيْهِ وَتَخْتَلِفَ أَضْلاَعُهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِأَصَابِعِهِ، فَأَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي جَوْفِ بَعْضٍ قَالَ: وَيُقَيِّضُ اللَّهُ لَهُ سَبْعِينَ تِنِّينًا لَوْ أَنْ وَاحِدًا مِنْهَا نَفَخَ فِي الأَرْضِ مَا أَنْبَتَتْ شَيْئًا مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا فَيَنْهَشْنَهُ وَيَخْدِشْنَهُ حَتَّى يُفْضَى بِهِ إِلَى الْحِسَابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا القَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ) الإمام الترمذي رحمه الله جلّ وعلا.
فالكيّسُ العاقل الفطن هو مَنْ جعل ذكر الموت والخوف منه واعظا فاستعدّ لما بعده بالتّقوى والعمل الصّالح.
فعَنْ سيّدنا عَمَّارٍ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله تعالى عنه، قَالَ:-
(كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا، وَكَفَى بِالْيَقِينِ غِنًى، وَكَفَى بِالْعِبَادَةِ شُغْلًا) الإمام البيهقي رحمه الله عزّ شأنه.
وما نراه اليوم من الهلع والخوف الذي أصاب النّاس بسبب الوباء الذي عمّ العالم، دليل في بعض حالاته على قلّة الإيمان واليقين بالله تبارك اسمه، لأنّ الموت قد يأتي في أيّ لحظة سواء كان بهذا الوباء أو بغيره، وكما يقال: تعدّدت الأسباب والموت واحد، فالإنسان لا يدري متى تُختم حياته بالموت، ولذا فإنَّ الواجب على المؤمن أنْ يتزوّد بالتقوى، ويستعد للرحيل، فربما حانت ساعته أو قربت وهو في غفلة، قال تعالى:-
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].
وَعَنْ سيّدنا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ:-
(أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ) الإمام البخاري رحمه الباري جلّ وعلا.
ورحم الله تعالى القائل-:
تَــزَوَّدْ مِـنَ التَّـقْــوَى فَـإِنَّـكَ لَا تَـدْرِي *** إِذَا جَـنَّ لَـيْـلٌ هَـلْ تَعِيْشُ إِلَى الفَجْـرِ
فَكَمْ مِنْ عَــرُوْسٍ زيَّـنُـوْهَـا لِـزَوْجِـهَـا *** وَقَـدْ قُـبِـضَـتْ أَرْوَاحُـهُـمْ لَيْلَةَ القَـدرِ
وَكَمْ مِنْ صِغَارٍ يُرْتَجَى طُـوْلُ عُمْرِهِمْ *** وَقَـدْ أُدْخِـلَـتْ أَجْسَادُهُـمْ ظُـلْمَةَ القَبْرِ
وَكَمْ مِـنْ صَحِـيْـحٍ مَاتَ مِنْ غَـيْرِ عِلَّةٍ *** وَكَمْ مِنْ سَقِيْمٍ عَـاشَ حِيْنًا مِنَ الدَّهْـرِ
وَكَمْ مِنْ فَتًى أَمْسَى وَأَصْبَـحَ ضَاحِـكًـا *** وَقَـدْ نُسِجَـتْ أَكْفَـانُـهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي
فَــــدَاوم عَـلَـى تَــقْــوَى الإِلَـهِ فَـإِنَّـهَــا *** أَمَانٌ مِنَ الأَهْوَالِ فِي مَوْقِفِ الحَشْرِ
فَـلَـوْ عِـشْـتَ أَلْــفًــا ثُـمَّ أَلْـفَـيْـنِ بَعْـدَهَا *** لَابُــدَّ يَـوْمًــا أَنْ تَـسِـيْـرَ إِلَـى القَـبْـرِ

فهذا ولا ريب هو حال الغرباء عن أوطانهم، إنّهم لا يجعلون الدنيا دارَ مقرّ، بل هي دار مفرّ وممرّ، ودار الزاد للآخرة بالتقوى والعمل الصالح؛ لأنَّ وطنهم الحق هو الجنّة، دار السلام والنعيم المقيم لأولياء الرحمن جلّ جلاله، فَهُم على حذر دائم من الدنيا، كيف لا وقد قال لهم المولى جلّ وعلا:-
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5].
وفي استعداد دائم للرحيل، وَلِمَ لا وقد قال ربنا عزّ شأنه:-
{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
فهؤلاء يصدق فيهم مثل قول القائل:-
إنّ للهِ عِـبَـادًا فُــطَــنَــا  *** طَلَّقُوْا الدُّنْيَا وَخَافُوْا الفِتَنَا
نَظَرُوْا فِيْهَا فَلَمَّا عَـلِمُوْا *** أَنَّـهَـا لَـيْسَـتْ لِحَيٍّ وَطَـنَا
جَعَـلُوْهَـا لُجَّةً وَاتَّخَـذُوْا *** صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيْهَا سُفُنَا

رابعا: ثمّ لابدّ أنْ يغلب على المسلم الرجاء وحسن الظنّ بالله جلّ في علاه عند الموت، قال عزّ وجلّ:-
{فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 87].
وفي الحديث القدسي:-
(أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ) الإمام أحمد رحمه الواحد الأحد تقدّس اسمه.
وقال نبيّنا الأكرم صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم:-
(لَا يَمُوْتنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَنَّ بِاللهِ) الإمام مسلم رحمه المنعم جلّ وعلا.
ورحم الله عزّ وجلّ أبا نؤاس إذ قال:-
يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوْبِيَ كَـثْـرَةً *** فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَـفْـوَكَ أَعْظَمُ
إِنْ كَانَ لَا يَـرْجُـوْكَ إِلّا مُحْـسِـنٌ *** فَبِمَنْ يَلُوْذُ وَيَسْتَجِـيـْرُ المُجْـرِمُ
أَدْعُوْكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعًا *** فَإِذَا رَدَدْتَّ يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَـمُ
مَـا لِـي إِلَـيْـكَ وَسِيْـلَـةٌ إِلَّا الرَّجا *** وَجَـمِـيْـلُ عَـفْـوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسْلِمُ

فالإنسان المفارق لدنياه، المُقبل على مولاه، لم يَبق له إلا التعلُّق بعفو الله تعالى ورحمته، وعظيم فضله، ورجاء كَرمه، ولابدّ أنْ يَسبق إلى ذهنه في هذه اللَّحظة أنّ رحمة الله سبحانه وَسعت كلَّ شيء، وأنّها غلَبت غضبَه، وأنَّ عفوه أحبُّ إليه من الانتقام، قال جلّ ذكره:-
{— وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ —} [الأعراف: 156].
وقال سيّدنا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه وآله وصحبه:-
(إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي) الإمام البخاري رحمه الباري سبحانه.
وفّق الله جلّ جلاله وعمّ نواله الجميع لحسن الختام، إنّه جلّ وعلا ذو الفضل والإنعام.
وصلّى الله تعالى وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والله عزّ وجلّ أعلم.