2020-06-17
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
زادكم الوهاب نورا ومهابة وإجلالا ونفع بكم الأمّة. أحبّكم في الله، أسأل الله تعالى أنْ يرزقنا صحبتكم مع شفيع الأمّة سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم، سيّدي عندي سؤال: ما معنى مصطلح البغاة والمحارب والمرتد، والفرق بينهما، وكيفية تطبيقها في مجتمعنا المعاصر؟ وجزاكم الله خيرا.

الاسم: أبو مريم

الرد:-
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.
أشكرك على تواصلك مع هذا الموقع المبارك، وعلى دعواتك الطيّبة، وأحبّكم الله جلّ وعلا الذي أحببتني فيه، وأدعو لك بمثلها وزيادة.
قبل الإجابة عن هذا السؤال لابدّ أنْ أبيّن لجنابك الكريم أمرين على قدر كبير من الأهمّية:-
1- إنّ إقامة أيّ حدّ من حدود الشرع الشريف يختص بولي الأمر، أو السلطان، أو مَنْ يخوّله في دار الإسلام، ولا يجوز لفرد أو مجموعة أفراد أنْ يقوموا بتنفيذ أيّ حدّ من حدود الله تبارك اسمه مهما أطلقتْ على نفسها من مسمّيات، أو وصفتْها بأوصاف، أو استظلّت تحت أيّ راية من الرايات.
2- إنّ هذا الموقع المبارك إرشاديّ تربويّ لا يقتصر على بيان الأحكام الفقهية فحسب، بل يسعى إلى توجيه كلّ مَنْ يرتاد إليه بما يصلحه وينفعه دينا ودنيا وآخرة، لذا كنت أرجو أنْ يكون سؤالك فيه الخير الذي أرشد إليه حضرة النبيّ الأكرم صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم بقوله:-
(لَنْ يَشْبَعَ الْمُؤْمِنُ مِنْ خَيْرٍ يَسْمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الجَنَّةُ) الإمام الترمذي رحمه الله عزّ وجلّ.
والأصناف الذين تفضّلت بالسؤال عنهم لهم أحكام خاصّة، لا تطبّق إلا بوجود دار الإسلام، ومن المعلوم أنّ هذه الدار غير موجودة اليوم، وبالتالي لا فائدة ترجى من ذلك، لذا سأكتفي بالتعريف فقط مع ذكر القليل من الأحكام، سائلا الحقّ جلّ وعلا التوفيق.
أولا:- البغاة:-
هم الخارجون على الإمام، ولا يستبيحون في خروجهم هذا الدماء، أو سبي الذراري، فإنْ فعلوا سمُّوا الخوارج.
ولأجل أنْ يتحقّق هذا الوصف ذكر العلماء رضي الله تعالى عنهم وعنكم شروطا، منها:-
1- أنْ يكونوا طائفة فيهم منعة بحيث يحتاج السلطان إلى قوّة من الجيش لردعهم فإنْ كانوا عددا قليلا لحقوا بقطاع الطرق.
2- أنْ يخرجوا عن قبضة الإمام فإنْ لم يخرجوا لم يكونوا بغاة.
3- أنْ يكون لهم تأويل سائغ بوجود شبهة يعتقدون فيها الخروج على الإمام، أو منع حقّ عليهم وإنْ أخطأوا في ذلك، كما تأوَّل بَنُو حَنِيفَة منع الزكاة بقوله تَعالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]. قالوا: فأمر الله بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن لنا، وهو رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فأما ابن أبي قحافة: فليست صلاته سكنا لنا، ولهذا: لما انهزموا.. قالوا: والله ما كفرنا بعد إيماننا، وإنّما شَحَحْنَا على أموالنا. فأمّا إذا لم يكن لهم تأويل سائغ، فحكمهم حكم قطاع الطريق. البيان في مذهب الإمام الشافعي (12/17).
ويجب على الإمام هنا أنْ يبعث في طلبهم لمناظرتهم فيقيم الحجّة عليهم، فإنْ أبوا حبسهم حتى يتوبوا، أو يقاتلهم حتى يفيئوا إلى أمر الله جلّ وعلا القائل:-
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].

ثانيا:- المحارب:-
هو الذي تجري عليه أحكام قاطع الطريق والإفساد في الأرض، والخروج على النّاس في الطرقات والصحاري والتعرّض لهم مِنْ أجل سَلْبِ أموالهم، فالوصفُ الذي يتحقَّقُ به حكمُ الحرابةِ هو قطعُ الطريق، أو الاعتداءُ على النّاسِ، سواء وقع ذلك مِن فردٍ، أو جماعةٍ.
وهم الذين ذكرهم الله جلّ في علاه بقوله:-
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
وعن سيّدنا أنس رضي الله تعالى عنه:-
(أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً، قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَاسْتَوْخَمُوا الْأَرْضَ، وَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَلَا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إِبِلِهِ، فَتُصِيبُونَ مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَقَالُوا: بَلَى، فَخَرَجُوا، فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَطَرَدُوا الْإِبِلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُدْرِكُوا، فَجِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَسُمِرَ أَعْيُنُهُمْ، ثُمَّ نُبِذُوا فِي الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا) الإمام مسلم رحمه المنعم جلّ وعلا.
وحكمه:-
إقامة الحدّ عليه بحسب جرمه، فإنْ سرق تقطع يده، وإنْ قَتَل قُتِلَ، وهكذا فلكلّ جنس حدّ واحد. الهداية في فروع الفقه الحنبلي ص145.

الفرق بين البغاة والمحاربين:-
1- المحارب أو قاطع الطريق يخرج فسقاً وعصياناً على غير تأويل (اجتهاد)، بل فساداً في الأرض. أمّا الباغي فهو الذي يحارب على تأويل.
2- البغاة جماعة لهم شوكة ومَنَعة ويُحتاج لردّهم قوّة من الجيش، وأمّا قطاع الطريق فليس لهم شوكة فقد يكونوا واحداً أو أكثر.
3- البغاة خارجون على السلطان، أمّا المحاربون فهم خارجون على الناس.

ثالثا: المرتد:-
(هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ دِيْنِ الإِسْلَامِ بَعْدَ الإِيْمَانِ إِلَى الكُفْرِ) المبدع في شرح المقنع (7/478)، وبدائع الصنائع (7/134).
قال الله جلّ ذكره:-
{وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [سورة التوبة: 74].
أي يعذّبهم عذابا موجعا في الدنيا، إمّا بالقتل، أو بعاجل خزي لهم فيها. تفسير الإمام الطبري رحمه الله عزّ وجلّ (14/369).
وقال عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام:-
(لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ) الإمام البخاري رحمه الباري سبحانه.
وقوله:-
(مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوْهُ) الإمام البخاري رحمه الله جلّ شأنه.
وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى:-
(فمَنِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ: حَلَّ دَمُهُ، وَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَالْأُمَّةُ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى ذَلِكَ) التمهيد (5/306).
فالمرتد يُحبس ويُستتاب ثلاثة أيّام فإذا مات أو قُتِلَ قبل أنْ يرجع عن ردّته فلا يغسّل، ولا يصلّى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث، ولا يورّث، بل يكون ماله فيئًا لبيت مال المسلمين، بخلاف البغاة والمحاربين.
وينبغي أنْ يكون معلوما أنّ هذا الحكم إذا كان المرتد محاربا مناوئا للإسلام في قوله أو فعله، أمّا إذا لم يكن كذلك بل اقتصرت ردّته على نفسه فحسب ولم يسفّه أحكام الإسلام وتعاليمه فإنّه لا يقتل، قال الشيخ البوطي رحمه الله تعالى:-
(إنّ لتلبّس المسلم بالردّة حالتين اثنتين:
أولاهما: أنْ يمارس شبهاته التي هجمت عليه أو قناعاته الجديدة بينه وبين نفسه، ويمسك عن إعلانها والإشادة بها بين الناس. فهذا يظلّ مكلوءً في حرز حصين من مبدأ {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ذلك لأنّ حالته هذه لا تنم عن أي معنى من معاني الحرابة التي يواجه بها المسلمين ومِنْ ثَمَّ فشأنه كشأن الكافر الأصلي. 
الثانية: أنْ يستعلن بردّته عن الإسلام وينافح عن أفكاره المناقضة لما كان عليه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه — ويصرّ على ذلك إصراره. فشأن هذا الإنسان يختلف عن سابقه اختلافا كبيرا، وعَزْم الحرابة في نفسه واضح إلى درجة القطع واليقين، وهل في أنواع الحرابة ما هو أشدّ وأخطر من الكيد للإسلام والمسلمين عن طريق بثّ عوامل الزيغ والسعي إلى تشكيك الناس بعقائدهم ومبادئهم الإسلامية) الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه ص212.
وصلّى الله تعالى وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والله تبارك اسمه أعلم.