11-1-2021
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جزاكم الله تعالى على هذآ الموقع المبارك وبارك لكم في عمركم وجعل كلّ حرف تنطقه وتكتبه صدقة في ميزان حسناتكم، نحبك في الله.
سيّدي في الآونة الاخيرة كثر انتشار مراكز التعليم وتحفيظ القرآن الكريم، وكروبات ومجموعات في مواقع التواصل الاجتماعي لهذا الغرض، وخصوصا التركيز على النساء، هناك أمور تحدث في هذا الموضوع تجعلنا نقلق ونتردد في السماح لنسائنا وبناتنا في الذهاب إلى هذه المراكز، والمشاركة في الكروبات والمجموعات، أمور سمعت بها ورأيتها، أنّ قسمًا من أصحاب هذه المراكز القائمين عليها هم المنكرين شديدي الإنكار على مناهج أهل التزكية النبوية الروحية  الشريفة والانشغال بالصلاة والسلام على خير الأنام سيّدنا رسول الله محمد صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم ويقومون ببثّ أفكارهم وإنكارهم بين الطلبة دارسين ودارسات، انشغال النساء بالمجموعات والكروبات بالاتصال في الأوقات غير المناسبة، تحول النيّة بعض من طرف المشرفين والقائمين عليها والطلبة دارسين ودراسات فيها إلى الحصول على المال والجاه.
سيّدي ما هي توجهاتكم وإرشاداتكم بخصوص هذا الموضوع؟ ولكم جزيل الشكر.

من: أبو مريم

الردّ:-
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.
أحبّكم الله جلّ وعلا الذي أحببتموني فيه.
من دواعي فرحي أنْ تكونوا ممّن يتابع هذا الموقع الميمون، وأسأل الله جلّ في علاه أنْ يبارك بكم ويتقبّل دعائكم إنّه سبحانه جواد كريم.
أمَّا بعد:-

فإنَّ خير ما يشتغل به المسلم ذكر الله عزّ وجلّ وتعلّم كتابه الكريم حفظا وتدبّرًا وعملًا فقد قال الله جلّ ذكره:-
{— وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [سورة المزمل: 4].
وقال:-
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة ص: 29].
وقال:-
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سورة سيّدنا إبراهيم عليه السلام: 1].
فهو كتاب الهداية والنور وشفاء الصدور، وقد حثَّنا خير البرية صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا على تعلّم الآيات القرآنية، فقال:-
(خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) الإمام البخاري رحمه الباري سبحانه.
وقال عليه أفضل الصلاة والتسليم وآله وصحبه أهل الفضل العظيم حاثًّا أولياء الأمور على تعليم أولادهم كتاب ربهم سبحانه:-
(وَيُوْضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَقُوْلَانِ: بِمَ كُسِيْنَا هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا القُرْآنَ) الإمام أحمد رحمه الله الأحد عزّ شأنه.
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في قصيدته المباركة:-
وَإِنَّ كِتَابَ اللهِ أَوْثَقُ شَافِعٍ *** وَأَغْنَى غَنَاءٍ وَاهِباً مُتَفَضِّلَا
وَخَيْرُ جَلِيسٍ لاَ يُمَلُّ حَدِيثُهُ *** وَتَرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلاً
وَحَيْثُ الْفَتى يَرْتَاعُ فِي ظُلُمَاتِهِ *** مِنَ اْلقَبرِ يَلْقَاهُ سَناً مُتَهَلِّلاً
فَيَا أَيُّهَا الْقَارِي بِهِ مُتَمَسِّكاً *** مُجِلاًّ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مُبَجِّلا
هَنِيئاً مَرِيئاً وَالِدَاكَ عَلَيْهِما *** مَلاَبِسُ أَنْوَارٍ مِنَ التَّاجِ وَالحُلاْ
فَما ظَنُّكُمْ بالنَّجْلِ عِنْدَ جَزَائِهِ *** أُولَئِكَ أَهْلُ اللهِ والصَّفَوَةُ المَلَا
عَلَيْكَ بِهَا مَا عِشْتَ فِيهَا مُنَافِساً *** وَبِعْ نَفْسَكَ الدُّنْيَا بِأَنْفَاسِهَا الْعُلَا
فالمسلم عليه أنْ يسعى ما أمكنه، ويستغلّ الطاقات البشرية والوسائل الحديثة لكي يرقى بنفسه وعائلته ومجتمعه.
وأمّا ما أوردتم من الإشكالات التي قد عمّت بلواها في مجتمعاتنا فإنَّ السبب الأعظم فيها تقصير أهل الحقّ في نشر الحقّ الّذي عندهم حتى دعى ذلك إلى ظهور مثل هؤلاء الذين يحاربون منهج التزكية الشريفة.

فأحثُّ أبنائنا الكرام وأولياءهم أنْ يبحثوا أوّلًا قبل الدخول إلى مثل هذه المنصّات والمجموعات، عمّن حسنت سيرته وطابت سريرتهُ، بالتشرّف بمحبّة أهل الله تعالى فإنْ لم يجدوا فأبناؤنا على نوعين:-
الأوّل:- مَنْ تشرَّفوا بالسلوك وتذوّقوا حلاوة التزكية، فهؤلاء لا يضرّهم إنْ شاء الله تعالى أنْ يتشرّفوا بدراسة الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة حيث يسّر الله جلّ وعلا لهم، ولا تضرّهم تلك الأفكار الهدّامة لقوله جلّ جلاله وعمَّ نواله:-
{— فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ —} [سورة الرعد: 17].
الثاني:- مَنْ يُخاف عليهم أنْ ينجرّوا وراء تلك الأفكار الهدّامة، فهؤلاء يُرشدون أولا إلى منهج التزكية الشريفة ويُبيّن لهم معالمها، ثمّ بعد ذلك فليتشرّفوا بتعلّم الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة كي تكمل لهم التزكية ظاهرًا وباطنًا، وهذا امتثالٌ لِمَا يُفْهَم من مضمونِ هاتين الآيتين الكريمتين:-
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ —} [سورة البقرة: 151].
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة البقرة: 129].
فقدّمَ التزكية في الآية الأولى قبل تعلّم الكتاب والحكمة، وأخّرها في الثانية، ففي هذا تنبيه للنبيه أنّ تعلّم الكتاب الشريف والسنّة المطهّرة بين تزكيتين:-
الأولى: لتطهير القلب، لاستقبال هذا الذكر الشريف وأنواره.
والثانية: للرقيّ بهذا الذكر بعد التعلّم إلى مراتب الصالحين ومنازلهم الشريفة رضي الله تعالى عنهم وعنكم.
وما ذكرتموه من فساد النيّة، أو اتصالهم في أوقات غير مناسبة، فهذا لغياب منهج أهل التزكية الشريفة بينهم، وعدم تطبيق الشريعة الغرّاء على تمام وجهها، فقد نبّهنا الشرع الشريف على ضرورة الإخلاص واصلاح النيّة، وفصّل لنا آداب الاستئذان والكلام.
أوَلَا يخاف أولئك الذين يصدّون عن منهج التزكية النبوية الشريفة وعيدَ الله سبحانه لهم، الثابت في النصوص الكريمة ومنها:-
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة سيّدنا لقمان عليه السلام: 6].
وحذّرنا جلّ وعلا من أنْ تكون النيّة في تعليم العلم كسبَ شيء من حطام الدنيا دون ما عند الله تعالى من المثوبة فقال عزّ شأنه:-
{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة التوبة: 9].
أسأل الله جلّ وعلا أنْ يصلح الجميع ويهديهم لكمال تطبيق الشرع الشريف إنّه سبحانه جواد كريم.
ومن هذا الموقع الميمون، والمنبر الشريف أدعو أحبابي الذين منَّ اللهُ جلّ وعلا عليهم بعلوم من القرآن الكريم، أو بمالٍ أنْ يبذلوا ما تيسّر لهم، أو بما استطاعوا من الوسائل في تعليم أبناء وبنات المسلمين، وتوجيههم لمنهج التزكية النبوية الشريفة، كي لا يحتاجوا لمثل تلك النِحْلَةِ.
وامتثالا لقوله جلّ ذكره:-
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن: 16].
أدعو المسلمين جميعًا أنْ يبذل كلٌّ منهم ما وفقه الله جلّ وعلا في مضمار تعلّم القرآن الكريم، فالصغير الذي نجد فيه النشاط والهمّة لتعلّمه وحفظه، ندعمه ونشجّعه بلا إكراه كي لا ينفرّوا من المقصود، وهو تعليق قلوبهم بالله تعالى وبكلامه العليِّ.
وكذا ينبغي للبالغ الذي لم يطّلع على متاعب الحياة فإنَّهم أرض خصبة للفهم والحفظ.
وأمَّا الكبار ومَنْ دخل معترك الحياة، فمَنْ وجد في نفسه الهمّة للحفظ فنشجّعه ونبارك له.
وأمّا مَنْ كثرت أشغاله، وصعب عليه الحفظ، فليركّز على ما تصح الصلاة به، وما يعلّق قلبه بالله جلّ في علاه، وبسيّدنا رسول الله صلّى الله تعالى وسلّم عليه وآله وصحبه ومَنْ والاه، وبإخوانه من النبيين عليهم الصلاة والتسليم وآلهم وصحبهم أجمعين، وبما يُعلي همّته للتطلّع بما ينجي في الآخرة.
وينبغي أنْ نعلم أنّ الشرع الشريف قد حثّنا على تطبيق أحكام الكتاب العزيز أكثر من مجرّد الحفظ؛ لأنَّه أنْزِلَ للتدبّر والعمل.
قال عليه الصلاة والتسليم وآله وصحبه الميامين:-
(المُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ: كَالأُتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالمُؤْمِنُ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ، وَيَعْمَلُ بِهِ: كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ: كَالرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ: كَالحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ وَرِيحُهَا مُرٌّ) الإمام البخاري رحمَهُ الكريم الباري سبحانه.
فالذي يحفظ القرآن الكريم ولا يعمل به يحرم نفسه من الخير العظيم.

نسأل الله جلّ جلاله أنْ يوفقنا جميعًا للعمل بما يرضيه عنا إنّه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
والله تبارك اسمه أعلم.
وصلّى الله تعالى على سيّدنا محمدٍ، معلّمِ الكتاب، والهادي للصواب، وعلى آله وصحبه أولي الألباب، ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب.