13/10/2021

مشاركة من الدكتور أحمد زكي جزاه الله تعالى خيرا

بسم الله الرحمن الرحيم

الإحراج بسبب وسائل التواصل الاجتماعي

بلغتِ الشريعةُ الغرَّاءُ الكمالَ إذْ جاءتْ بكُلِّ حَسَنٍ مِنْ آدابٍ وأخلاقٍ، ونهتْ عنْ كلِّ قبيحٍ مِنْ قولٍ أوْ فِعلٍ، قالَ اللهُ تباركَ اسمه:-

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل: 90].

والأدبُ مطلوبٌ مِنَ العبدِ معَ اللهِ عزّ شأنه، ومعَ رسولهِ عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام، ومعَ الناسِ، بلْ وحتى معَ البهائمِ، فالإنسانُ يتفاعلُ معَ كُلِّ شيءٍ، فلا بُدَّ أنْ يُرافِقَ هذا التفاعُلَ أدبٌ وخُلقٌ حسنٌ.

فمِنْ أدبِ العبدِ معَ اللهِ جلّ جلاله أذكرُ حديثًا شريفًا واحدًا، وهو قوله صلوات ربي وسلامه عليه وآله وصحبه:-

(اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ. قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ) الإمام الترمذي رحمه الله عزّ وجلّ.

وفي عِلاقةِ المسلمِ معَ سيّدِ الخلقِ صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه أهل الحقّ، يأمُرُ اللهُ سبحانه المؤمنينَ بكمالِ الأدبِ في حضرته فيقولُ:-

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [سورة الحجرات: 2].

وآدابُ الإنسانِ معَ أخيهِ الإنسانِ تزخُرُ بها مُصنَّفاتُ الحديثِ الشريف وكُتبُ الأخلاقِ وغيرِها، وسآتي على ذكرِ شيءٍ منها يتعلَّقُ بالسُّؤالِ.

ولمْ يُغفِلِ الشَّرعُ الشريفُ البهائمَ مِنَ الرحمةِ والرفقِ، يقولُ سيّدُنا أنسُ بنُ مالكٍ رضي الله تعالى عنه:-

(كُنَّا إذا نزلنا منزِلًا، لا نُسَبِّحُ حتَّى نَحُلَّ الرِّحَالَ) الإمام أبو داود رحمه الودود جلّ وعلا.

قالَ الإمامُ النوويُّ رحمهُ اللهُ تعالى في رياضِ الصَّالحينَ والذي لا يجبُ أنْ يخلوَ منهُ بيتٌ مُسلمٌ:

(وقولُهُ: لا نُسَبِّحُ، أيْ: لا نُصلِّي النَّافِلةَ، ومعناهُ: أَنَّا معَ حِرصِنا على الصَّلاةِ لا نُقَدِّمُها على حَطِّ الرِّحالِ وإرَاحَةِ الدَّوابِّ).

فتأمَّلْ يا رعاكَ اللهُ تعالى هذا الأدبَ العظيمَ الذي ربَّاهُمْ عليهِ سيّدنا رسولُ اللهِ صلّى الله تعالى وسلّم عليه وآله وصحبه ومَنْ والاه في مراعاتِهِمْ لبهائمَ لا تنطِقُ ولا تشتكي، فعُلِمَ أنَّ الأدبَ معَ بني الإنسانِ أولى وآكدُ.

فالإسلامُ إذًا كُلُّهُ أخلاقٌ وآدابٌ وأذواقٌ، عنْ سيّدِنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عنِ النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه هداة الأنام، الذي وصفهُ ربُّهُ جلَّ في عُلاهُ بقولهِ:-

{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [سورة القلم: 4].

أنَّهُ قال:-

(إنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلَاقِ) الإمام البخاري رحمه الباري سبحانه في الأدب المفرد.

وفي روايةٍ:-

(لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ) الإمام البزار رحمه الغفار جلّ جلاله.

وإذا كانَ هذا وصفُ سيِّدِ الخَلْقِ صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم، فلا عجبَ أنْ يكونَ صاحبُ الخُلُقِ الحَسنِ في أقربِ منزِلةٍ منهُ في الجِنانِ، فقد قال:- (إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلِسًا يومَ القيامةِ أحاسِنَكُم أخلاقًا —) الإمام الترمذي رحمه الله عزّ شأنه.

وسيأتي تمامُ الحديثِ.

وعنْ سيّدِنا عبدِ اللهِ بنِ عمروٍ رضيَ اللهُ تعالى عنهُما أنهُ قالَ:-

(لَمْ يَكُنْ رَسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا ولَا مُتَفَحِّشًا، وَإنَّهُ كَانَ يَقُوْلُ: إنَّ خِيارَكُمْ أحاسِنُكُمْ أخلاقًا) الإمام البخاري رحمه الله سبحانه.

والمرءُ يحتاجُ إلى معاملةِ الخلقِ على الدَّوامِ، فينبغي أنْ يتحلَّى مِنَ الأخلاقِ بأحسنِها، ومِنَ الآدابِ بأعلاها. إذِ المُعوَّلُ على حُسنِ الخُلُقِ، فالدِّينُ المعاملةُ، والمعاملةُ إنْ لمْ تحكُمْها الأخلاقُ الحسنةُ فإنَّها تُفسِدُ وتثيرُ مِنَ الفتنِ والمشاكلِ أكثرَ ممَّا تصلِحُ. قال عليه الصلاة والتسليم وآله وصحبه الميامين:-

(إنَّكمْ لنْ تَسَعُوا النَّاسَ بأموالِكمْ، ولكنْ يَسَعُهُمْ منكمْ بسْطُ الوجهِ وحُسنُ الخُلُقِ) الإمام المنذري رحمه الله تعالى في الترغيب والترهيب.

إنَّ قليلَ العملِ معَ الأدبِ خيرٌ مِنْ كثيرِهِ بلا أدبٍ، فعنْ أمِّ المؤمنينَ سيّدتِنا عائشةَ رضيَ اللهُ تعالى عنها:-

(أنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: إنَّ المُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِخُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ) الإمام ابن حبان رحمه الرحمن جلّ جلاله.

وما ذاكَ إلا أنَّهما في جهادٍ دائمٍ، فالصَّائمُ القائمُ يُجاهِدُ نفسَهُ بمكابدةِ جوعِ النَّهارِ ومشقَّةِ قِيامِ الليلِ، وصاحِبُ الخُلُقِ الحسَنِ يُجاهِدُ نفسَهُ كيْ تتخلَّقَ بالأخلاقِ الحَسَنَةِ مِنَ بذلٍ للنَّاسِ ونُّصحٍ لهُمْ، ومراعاةٍ لشؤونِهم، وصَبرٍ على أذاهُمْ، وهذهِ صفاتُ المؤمنِ الحقِّ. قال صلّى الله تعالى وسلّم على ذاته وصفاته وآله وصحابته:-

(مَنْ نَفَّسَ عنْ مُؤْمِنٍ كُربةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيا، نَفَّسَ اللَّهُ عنهُ كُربةً مِنْ كُرَبِ يومِ القِيامةِ، ومَنْ يَسَّرَ علَى مُعسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليهِ في الدُّنيا والآخرةِ، ومَنْ سَتَرَ مُسلِمًا سَترهُ اللَّهُ في الدُّنيا والآخرةِ، واللَّهُ في عَوْنِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عونِ أخيهِ —) الإمام مسلم رحمه المنعم جلّ وعلا.

إنَّ التواصلَ معَ عِبادِ اللهِ الصَّالحينَ أمرٌ محمودٌ بشكلٍ عامٍّ، يقولُ اللهُ تباركَ في علاه:-

{— وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا —} [سورة الحجرات: 13].

إلَّا أنَّ هذا التواصُلَ محكومٌ بآدابٍ وضوابطَ وَضَعَها الشَّارِعُ الحكيمُ، فهُوَ مبنيُّ على الاحترامِ والإيثارِ ومحبَّةِ نَفعِ الغيرِ. فكما لا يُحِبُّ المرءُ لنفسهِ أنْ يَشغَلَهُ أحدٌ عنْ مُهِمَّاتِ أُمورِهِ فلا يُحبُّ لغيرِهِ أنْ يُشغَل، وكما لا يُحِبُّ أنْ يَضيعَ وقتُهُ في فُضولِ الكلامِ فلا يُحِبُّ لغيرهِ كذلكَ، وهكذا. عنْ سيدِنا أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله تعالى عنه:-

(أنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيْهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) الإمام البخاري رحمه الباري جلّ ذكره.

نعمْ، إنَّ ممَّا يؤسَفُ لهُ أنَّ وسائلَ التَّواصُلِ الحديثةِ يُسيءُ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ استخدامَها، وهيَ لَعَمْرُ اللهِ نعمةٌ عظيمةٌ لِمَنْ وفَّقهُ اللهُ سبحانهُ لاستخدامِها على الوجهِ الذي يُرضيهِ، ومِنْ شُكرِ النِّعمةِ استخدامُها في حَقِّها. فمِنْ ذلكَ: التَّواصُلُ لصلةِ الرَّحِمِ وأداءِ الحقوقِ، فما أجملَ أنْ يجتمعَ اثنانِ عبرَ هذهِ الوسائطِ فيتفقَّدَ أحدُهُما صاحِبَهُ، فتتحقَّقُ صورةٌ مِنْ أرقى صُوَرِ العِلاقاتِ الإنسانيةِ التي تدومُ ثمرتُها إلى الدَّارِ الآخِرةِ، ألا وهِيَ المحبَّةِ في اللهِ جلّ في علاه التي تجعَلُ أطرافَها مِنَ السَّبعةِ الذينَ يظلُّهُمُ اللهُ تعالى في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ:-

(— وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ —) الإمام البخاري رحمه الله تعالى عزّ شأنه.

ومِنْ فوائدِ وسائلِ التَّواصُلِ أنَّها أداةٌ صالِحةٌ للدَّعوةِ إلى اللهِ تباركَ اسمه، والتَّذكيرِ ونشرِ العِلمِ، عملًا بتوجيهِ مُعلِّمِ النَّاسِ الخيرَ صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم في قولهِ:-

(بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً —) الإمام البخاري رحمه الله جلّ وعلا.

وقدْ كانَ سيّدنا رسولُ اللهِ صلّى الله تعالى وسلّم عليه وآله وصحبه ومَنْ والاه يغشى مجالِسَ قُريشٍ يَعرِضُ عليهِمُ الإسلامَ، وإنَّ مِنْ مجالسِ النَّاسِ اليومَ مِنصَّاتُ التَّواصُلِ.

لكنْ ينبغي لكُلِّ مُقدِمٍ على أمرٍ أنْ يُلِمَّ بأحكامِهِ، فالدَّاعي -على سبيلِ المثالِ- ينبغي أنْ لا يُثقِلَ على النَّاسِ فيُمِلَّهُمْ، فقدْ كانَ سيّدُنا عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضي الله تعالى عنه

(يُذكِّرُ النَّاسَ كُلَّ يَوْمِ خَمِيْسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّا نُحِبُّ حَديثكَ ونشتهيهِ، ولَودِدْنا أنَّكَ حدَّثتنا كُلَّ يومٍ، فقالَ: ما يَمنعُني أنْ أُحدِّثَكُمْ إلَّا كَراهيةُ أنْ أُمِلَّكُمْ، إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَتخَوَّلُنا بالموعِظَةِ في الأيَّامِ، كَراهيةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا) الإمام مسلم رحمه الله عزّ شأنه.

ومِنْ صُورِ الإفادةِ مِنْ وسائلِ التَّواصُلِ، طلبُ العِلمِ والاجتماعِ بالعُلماءِ والصَّالحينَ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، والنَّهلِ منْ علومِهمِ والاستماعِ إلى توجيهاتهمْ، فضلًا عنِ الإفادةِ منها في الأمورِ الدُّنيويةِ المباحةِ كالعملِ والوظيفةِ، والاستزادةِ مِنَ المعرفةِ، إضافةً إلى اللهوِ المباحِ بينَ الفَينَةِ والفَينَةِ. يُروى عنْ سيّدِنا عليٍّ رضي الله تعالى عنه وكرَّمَ وجههُ أنَّهُ قالَ:-

(روِّحُوا القلُوْبَ سَاعَةً فَإنَّهَا إِذَا أُكرِهتْ عمِيَتْ).

وإنَّ ما يُنشَرُ في وسائلِ التَّواصُلِ مِنَ الخيرِ قدْ يرقى لِأنْ يكونَ مِنْ قبيلِ العلمِ الذي يُنتفعُ بهِ إلى ما شاءَ اللهُ جلّ جلاله، قالَ الحبيب المحبوب صلّى الله تعالى وسلّم عليه وآله وصحبه أتقياء القلوب:-

(إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثلاثةٍ: إلَّا مِنْ صدقةٍ جاريةٍ، أوْ عِلمٍ يُنتفَعُ بهِ، أو ولدٍ صَالِحٍ يَدْعُوْ لَهُ) الإمام مسلم رحمه الله سبحانه.

يريدُ اللهُ عزَّ وجلَّ للمجتمعِ المسلِمِ أنْ يكونَ مُحصَّنًا مِنْ الأمراضِ الاجتماعِيَّةِ التي تجعلُهُ بعيدًا عنْ صِفَةِ الأمَّةِ الوسطِ التي أرادَ اللهُ تعالى لها أنْ تكونَ قدوةً للأممِ وشاهدةً عليها. قالَ اللهُ جلّ ذكره:-

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ —} [سورة البقرة: 143].

إنَّ أمراضًا كالغِيبَةِ والنَّميمةِ والثرثرةِ وأمثالِها ممَّا تعُجُّ بهِ مواقِعُ التَّواصُلِ الاجتماعيِّ تنخِرُ جسمَ المجتمعِ شيئًا فشيئًا حتى تفشوَ فيهِ الكراهِيةُ والنِّفاقُ والظُّلمُ. قال عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام:-

(إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لكُمْ ثلاثًا: قيلَ وَقالَ، وإضاعةَ المالِ، وكثرةَ السُّؤالِ) الإمام مسلم رحمه الله جلّ شأنه.

مِنْ أجلِ ذلكَ شَرَّعَ اللهُ تعالى إجراءاتٍ وِقائيَةً تضمَنُ عدمَ ظهورِ هذهِ الأمراضِ أوِ استفحالِها. فعلى سبيلِ المثالِ، أمَرَ عبادَهُ المؤمنينَ الزائرينَ بالاستئذانِ، ولمْ يُحرِّجْ على المَزورينَ إنْ همْ رفضوا الزيارةَ بكُلِّ صراحةٍ ووضوحٍ معَ كامِلِ الأدبِ إذْ هُمْ أعلمُ بظروفِهِمْ، بلْ ويطلبُ مِنِ الزائرينَ أنْ يتقبَّلوا ذلكَ بكُلِّ أريحيَّةٍ، ثُمَّ يُعلِمُ -جلَّ جلالُهُ وعمَّ نوالُهُ- هؤلاءِ وأولئكَ أنَّ هذا التشريعَ إنَّما جاءَ ليُزَكِيَ نفوسَهمْ ويحفَظَ مجتَمعَهَمْ، فلا ينبغي أنْ يُفسِدَ قلوبَ بعضِهمْ على بعضٍ، فما بُنيَ على آدابِ الشريعةِ الغرِّاءِ بصِدقٍ وصَراحةٍ ووضوحِ أحرى أنْ يدومَ ويُثمِرَ. قالَ الله جلّت قدرته في مُحكَمِ كتابهِ العزيز:-

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [سورة النور: 27 – 28).

نقلَ الإمامُ ابنُ كثيرٍ رحمهُ اللهُ سبحانه في تفسيرهِ عنْ سيّدنا قَتادةَ رحمهُ اللهُ تعالى أنَّهُ قالَ في قولهِ عزّ وجلّ: {حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ}:-

(هوَ الاستئذانُ ثلاثًا، فمَنْ لمْ يُؤْذَنْ لهُ منهمْ فليرجِعْ، أمَّا الأولى فلِيُسمِعَ الحيَّ، وأمَّا الثانيةُ فلِيأخُذوا حِذرَهُمْ، وأمَّا الثالثةُ فإنْ شاؤوا أذِنُوا، وإنْ شاؤوا ردُّوا، ولا تَقِفَنَّ على بابِ قومٍ ردُّوكَ عنْ بابهمْ، فإنَّ للنَّاسِ حاجاتٍ ولهمْ أشغالٌ، واللهُ أولى بالعُذرِ).

إذًا، فمِنْ حقِّ المرءِ أنْ يعتذرَ وينسحِبَ مِنْ مُكالمةٍ طويلَةٍ عبرَ وسائلِ التَّواصُلِ إنْ كانتِ تؤثِّرُ على صحّته، (إذ ثبت علميًّا أنّ استعمال هذه الأجهزة يؤثر بشكل عام على الدماغ من خلال الذبذبات التي تبثّها، ويزداد تأثيرها بشكل خاص على منْ لهم أحوال صحيّة معيّنة)، أو أداءِ مهامِّهِ ورِعايةِ عيالِهِ، أوْ كانَ وقتُها لا يلائمُهُ، أوْ كانتْ غيرَ ذاتِ فائدَةٍ له. أمَّا إذا كانَ في المكالمةِ ما هُوَ غيرُ مشروعٍ ابتداءً كالغِيبَةِ والنَّميمةِ والكذِبِ والاستهزاءِ وما إلى ذلكَ مِنَ المحرَّماتِ، فيحرُمُ البقاءُ فيها ويجبُ مفارقتُها. قالَ اللهُ تقدّست أسماؤه:-

{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [سورة القصص: 55].

بلْ مِنْ بابِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المنكرِ، يجبُ عليهِ تنبيهُ الأطرافِ المشارِكةِ في المكالمةِ إلى ما فيها مِنْ مُنكراتٍ.

ذكرَ الإمامُ الغزاليُّ رحمهُ اللهُ تعالى في كتابهِ القيّمِ إحياء علومِ الدينِ مِنْ آفاتِ اللسانِ الكثيرَ، أذكرُ بعضَها مِنْ غيرِ تفصيلٍ:-

(الكلامُ فيما لا يعني، الخوض في الباطلِ، المِراءُ والخصومة، التقعُّرُ في الكلامِ، الفُحشُ والسَّبُ وبذاءةُ اللسانِ واللعنُ، الغناءُ والشِّعرُ، المزاحُ، السُّخريةُ والاستهزاءُ، إفشاءُ السِّرِّ، الوعدُ الكاذبُ، الكذبُ في القولِ واليمينِ، الغيبةُ والنميمةُ، كلامُ ذي اللسانينِ، المدحُ، الغفلةُ عنْ دقائقِ الخطأ في فحوى الكلامِ).

ويتَّضِحُ مِنْ هذهِ القائمةِ أنَّ آفاتِ اللِّسانِ كلّها، كما قدْ تقعُ بينَ المتحادِثينَ وجهًا لوجهٍ، تقعُ عبرَ الهاتفِ أو وسائلِ التَّواصُلِ الاجتماعيِّ، بلْ ربَّما هيَ أعظمُ إثمًا وخطرًا إذا كانتِ عبرَ وسائلِ التَّواصُلِ، ذاكَ أنَّ وسائلَ التَّواصُلِ لا تَقصِرُ الكلِمَةَ على ساعَةِ المحادثَةِ فحسبُ، بلْ قدْ تحتفِظُ التقيناتُ الحديثةُ بالكلمةِ إلى أزمِنةٍ طويلةِ وتنشُرُها في طولِ الأرضِ وعرضِها. قالَ سيّدنا رسولُ اللهِ صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم:-

(— وإنَّ أحدَكمْ لَيتكلَّمُ بالكلمةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ ما يظُنُّ أنْ تبلُغَ ما بلَغَتْ فيكتُبُ اللهُ لهُ بها سخَطَهُ إلى يومِ القيامةِ) الإمام ابن حبان رحمه الله تعالى.

يُنبيكَ عنْ خطورةِ آفاتِ اللسانِ حديثُ سيّدِنا معاذِ بنِ جبلٍ رضي الله تعالى عنه إذْ سألَ سيّدنا رسولَ اللهِ صلّى الله تعالى وسلّم عليه وآله وصحبه ومَنْ والاه:-

(يا رسولَ اللَّهِ أخبِرني بعمَلٍ يُدخلُني الجنَّةَ، ويباعدُني منَ النَّارِ. قالَ: لقد سَألتَ عظيمًا، وإنَّهُ ليسيرٌ على مَن يسَّرَهُ اللَّهُ عليهِ، تعبدُ اللَّهَ لا تشرِكُ بِهِ شيئًا، وتقيمُ الصَّلاةَ، وتؤتي الزَّكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحجُّ البيتَ. ثمَّ قالَ: ألا أدلُّكَ على أبوابِ الخيرِ؟ الصَّومُ جنَّةٌ، والصَّدقةُ تطفئُ الخطيئةَ كما يطفئُ النَّارَ الماءُ، وصلاةُ الرَّجلِ مِن جوفِ اللَّيلِ، ثمَّ قرأَ: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سورة السجدة 16-17]. ثمَّ قالَ: ألا أخبرُكَ برأسِ الأمرِ وعمودِهِ وذروةِ سَنامِهِ؟ الجِهادُ. ثمَّ قالَ: ألا أخبرُكَ بِمِلاكِ ذلِكَ كلِّهِ؟ قلتُ: بلَى. فأخذَ بلسانِهِ، فقالَ: تَكُفُّ عليكَ هذا. قلتُ: يا نبيَّ اللَّهِ، وإنَّا لَمؤاخذونَ بما نتَكَلَّمُ بِهِ؟ قالَ: ثَكِلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهَل يُكِبُّ النَّاسَ على وجوهِهِم في النَّارِ، إلَّا حصائدُ ألسنتِهِم) الإمام ابن ماجه رحمه الله جلّ وعلا.

أمَّا شهوةُ الكلامِ وحبُّ الثرثرةِ فنجدُ بشأنِهٍ ترهيبًا شديدًا مِنْ حضرة الرسول الأعظم صلّى الله تعالى وسلّم عليه وآله وصحبه أهل الجود والكرم، فمِنْ ذلكَ قولُهُ الكريم:-

(— وإنَّ مِن أبغضِكُم إليَّ وأبعدِكُم منِّي يومَ القيامةِ الثَّرثارونَ، والمتشدِّقونَ، والمتفَيهِقونَ. قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، قد علِمنا الثَّرثارينَ والمتشدِّقينَ فما المتفَيهقونَ؟ قالَ: المتَكَبِّرونَ) الإمام الترمذي رحمه الله عزّ شأنه.

ما أكثرَ ما يُضَيِّعُ النَّاسُ أوقاتَهُمْ في الكلامِ غيرِ المفيدِ؟!

إنَّ ما اصطلحَ عليهِ البعضُ بقتلِ الوقتِ أمرٌ لا يُقِرُّهُ شرعٌ ولا عقلٌ، ذلكَ أنَّ الوقتَ هوَ رأسُ مالِ المرءِ، ولا يضيِّع رأسَ المالِ إلَّا غافلٌ، نعوذُ باللهِ تباركَ وتعالى منَ الغفلة، قالَ عزَّ مِنْ قائلٍ:-

{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} [سورة الأنبياء عليهم السلام: 1].

وقالَ عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام:-

(لَا تَزولُ قَدمَا عبدٍ حتَّى يُسأَلَ عنْ عُمُرِهِ فيمَ أفناهُ، وعنْ عِلمِهِ فيمَ فعَلَ فيهِ، وعنْ مالِهِ مِنْ أينَ اكتَسَبَهُ وفِيمَ أنفَقَهُ، وعنْ جِسمِهِ فيمَ أبلاهُ) الإمام المنذري رحمه الله تعالى في الترغيب والترهيب.

هذا وينبغي لمَنِ ابتُليَ بشيءٍ مِنْ آفاتِ اللسانِ أنْ يسعى إلى تزكيةِ نفسهِ ولسانِهِ بالسُّلُوكِ على يدِ مُرشِدٍ موصولِ اليدِ بحضرة النبيِّ صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم، يُعينُهُ بإذنِ اللهِ سبحانه على التَّخلُّصِ مِنْ رُعوناتِ النَّفسِ والتَّحلي بأفضلِ الصِّفاتِ، ويُقرِّبُهُ مِنْ حضرةِ ربِّ الأرضِ والسَّمواتِ. وأنْ يديمَ مراقبةَ لسانِهِ فيسألَ نفسَهُ كلَّما أرادَ أنْ ينطِقَ بشيءٍ: هلْ في ذلكَ خيرٌ؟ فإنْ كانَ كذلك فليقُلْ وإلَّا فليصمُتْ، كما قالَ مَنْ زكَّى اللهُ جلّ وعلا لسانَهُ فلا ينطِقُ عنِ الهوى صلوات ربي وسلامه عليه وآله وصحبه أهل الصدق والوفا:-

(مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ —) الإمام البخاري رحمه الباري جلّ ذكره.

قالَ سيّدُنا عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضي الله تعالى عنه:-

(والذي لا إلهَ غيرُهُ، ما على ظهرِ الأرضِ شيءٌ أحوجُ إلى طولِ سِجنٍ مِنْ لِسانٍ) الإمام الطبراني رحمه الله جلّ ثناؤه.

أسألُ اللهُ تباركَ اسمه أنْ يُبصِّرَنا بعُيوبِنا، ويُمَلِّكَنا ألسِنَتَنا، ويوفِّقَنا إلى تزكِيةِ نفوسِنا، بجاهِ صاحِبِ الخُلقِ العظيمِ صلّى اللهُ تعالى عليهِ وآلهِ وصحبهِ وسلَّمِ.

واللهُ جلّ جلاله أعلمُ وأحكمُ.

 

 

الرد:

جزاك الله جلّ وعلا خيرا على هذه المشاركة القيّمة التي أسأل الله جلّ في علاه أنْ ينفع بها قارئها ويوفّق الجميع للعمل بمقتضاها إنّه سبحانه وليّ التوفيق.