نص السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته شيخنا الفاضل أسأل الله تعالى أنْ يحفظكم ويمدّ في عمركم المبارك إنّه سميع مجيب.

سؤالي هو: ما حكم الإضراب عن الطعام الذي يقوم به بعض المساجين لإجبار الجهة المحتجزة على إطلاق سراحهم؟ ممّا قد يؤدي إلى تلف عضو أو حتى الموت؟ بل إنّ الأمر تعدّى إلى أنّ بعضَ مَنْ هم خارج السجن يروجون لحملات (الإضراب الجزئي عن الطعام) من باب التضامن!!

إنّ ممّا يؤسف له في هذا الزمان أنّ بعض المسلمين أفرادًا وأحزابًا يقومون بل ويشجعون على فعل من الأفعال لمصالح سياسية معينة، ثمّ ينطلقون بعد ذلك يبحثون عن فتوى هنا وهناك لإضفاء الشرعية على ذلك الفعل، خلافًا للأصل المعتبر في أنّ العِلم إمامٌ للعمل والعمل تابعه. فنجد نتيجة لذلك فتاوى متناقضة لا دليل عليها سوى قاعدة (تحقيق المصالح ودرء المفاسد) التي إذا اقترنت بالهوى تحوّلت إلى قاعدة فضفاضة تتسع لكلّ شيء، فأشبهت المبدأ الغربي (الغاية تبرّر الوسيلة) ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.

وجزاكم الله تعالى عنا وعن المسلمين خيرًا.

 

الاسم: سائل

 

 

الرد باختصار:-

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.

شكرًا جزيلا على تعلّقكِ المبارك بهذا الموقع الطيّب، ودعواتك الكريمة، وأسأله جلّ في علاه أنْ يوفقك لكلّ خَيْر، ويدفع عنك كلّ ضَيْر، إنّه سبحانه قريب مجيب.

لا يجوز أنْ يضرب عن الطعام لزمن يصل فيه إلى الجهد وفساد عضوٍ أو الهلاك، وهذا ممّا دلّ عليه الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة وإجماع أهل العلم رحمهم الله عزّ وجلّ، فلا يعارضه اجتهاد مجتهد.

 

التفصيل:-

إنَّ ممّا يُعلم ضرورة في هذا الدين الحنيف أنّ الحق سبحانه قد نهى عن إيذاء النفس والسير بها نحو المهالك فقال عز من قائل:-

{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ —} [سورة البقرة: 195].

وقال حضرة النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:-

(مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) متفق عليه.

ومسألة الأضراب عن الطعام عمومًا لمَنْ قدر عليه لها صورتان:-

الصورة الأولى: أنْ يضرب عن الطعام لزمن لا يصل فيه إلى الجهد وفساد عضوٍ أو مهلكة، والأصل في حكم هذه الصورة الإباحة ولكن قد يختلف الحكم بحسب العلة الدافعة له، فمَنْ كانت علّته بهذا الفعل التوصّل لدفع الظلم عن نفسه، كمَنْ يكون مسجونا ويعلم على جهة الظنّ الغالب أو القطع أنّ مثل هذا الاضراب، قد يساعده في دفع الظلم عن نفسه، فهذا ممّا لا بأس به، بل قد يصل إلى درجة الاستحباب، قال الباري جلّ جلاله:-

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [سورة المؤمنون: 96].

ومثل هذا في الاستحباب إذا توصل بالكفّ عن الطعام إلى تربية نفسه الأمارة بالسوء بحبسها عن بعض شهواتها، ونحو ذلك.

الصورة الثانية: أنْ يضرب عن الطعام لزمن يصل فيه إلى الجهد وفساد عضوٍ أو الهلاك، فهذا ممّا أجمع أهل العلم رحمهم الله تعالى على حرمته؛ لأنّ هذا من قتل الشخص لنفسه، والحق جلّ وعلا يقول:-

{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [سورة النساء: 29].

وهذه الآية من أعظم الشواهد على سعة رحمة الله تعالى وأنّه أرحم بالخلق من أنفسهم، حيث ينهاهم عمّا يؤذيهم، ويعاقبهم على أذيّة أنفسهم.

وعن حضرة النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام قَالَ:-

(كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّـهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ) متفق عليه.

 

وعلى هذا إجماع الصحابة وأهل العلم رضي الله تعالى عنهم وعنكم حتى لو اضطر إلى أكل محرّم وجب عليه ذلك لدفع الهلاك عن نفسه قال العلامة البجيرمي رحمه الله سبحانه:-

(وَمَحَلُّ حُرْمَةِ شُرْبِهِ “أي: الخَمْر وَالشَّرَاب المُحَرَّم” لِلْعَطَشِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ. وَإِلَّا جَازَ بَلْ وَجَبَ كَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ وَاضِحٌ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْحَقَ بِالْهَلَاكِ نَحْوُ تَلَفِ عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ) تحفة الحبيب على شرح الخطيب (4/190).

وأمّا ما ذكرتم من القاعدة العظيمة (تحقيق المصالح ودرء المفاسد) فهذه القاعدة لا يحلّ أنْ يستدلّ بها إلا مَنْ كملت لديه ملكة الاجتهاد، فقد يرى الشخص أنَّ هذه مفسدة وهي مصلحة لقصور فهمه، وعلى كلّ حال فهذه القاعدة لا تدخل فيما قام الدليل القطعي على وجوبه أو تحريمه، ولكن قد يرجح بها في باب الظنيات، والمسائل التي لا دليل عليها.

والله تبارك اسمه أعلم

وصلّى الله تعالى وسلّم على سيّد الوجود، ومنبع الكرم والجود، حضرة نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.