2022-01-09

نصّ السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

حفظكم الله سبحانه وتعالى سيّدي حضرة الشيخ وأطال بعمركم، تعلّمنا الكثير من أمور ديننا من خلال موقعكم الطيّب المبارك، بارك الله بالقائمين عليه وجزاهم الله تعالى وجزاكم كلّ خير سيّدي رضي الله تعالى عنكم ونفعنا بكم.

كنت مع بعض الأصدقاء فدار حوار عن الحيوانات المحرّم أكلها هل (الضبع والقرش والتمساح والثعلب) أكلها حلال أم حرام؟

 

الاسم: عثمان

 

الرد:-

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.

شكرا جزيلا على تعلّقك المبارك بهذا الموقع الطيّب، ودعواتك الكريمة، وأسأله جلّ في علاه أنْ يوفقك لكلّ خَيْر، ويدفع عنك كلّ ضَيْر، إنّه سبحانه قريب مجيب.

الجواب باختصار:-

إنَّ الحيوانات الأربع التي سألتم عنها تعدّدت فيها آراء أهل العلم رضي الله تعالى عنهم وعنكم، ولكلّ دليله ومتمسكه الشرعي، والذي يسكن له قلب خادمكم القول بالكراهة التحريمية لكلّ من التمساح والثعلب والضبع، والكراهة التنزيهية في القرش، لأنّها من المشتبهات التي حثَّ الشارع الحكيم على تجنّبها.

التفصيل:-

إنَّ ممّا يُعلمُ ضرورة أنَّ الحقّ عزّ شأنه اختص هذه الأمّة المحمدية بفضائلَ وفيرةٍ، ومناقبَ كثيرةٍ، منها أنّه وسَّعَ لها باب الحلال الطيّب وكثّره، وضيّق باب الحرام الخبيث وحصره فقال جلّ جلاله آمرًا صفيّه ومرتضاه صلواته وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه:-

{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة الأنعام: 145].

فيفهم من نصّ هذه الآية الكريمة أنَّ الأصل في المطعومات والمشروبات الإباحة إلّا ما قام الدليل الشرعيّ على منعه أو كراهته، ومن هنا تعددت آراء فقهاء الأمّة رضي الله تعالى عنهم وعنكم في حلِّها أو حرمتها، ولم يكن هذا تعصّبًا أو هوى، إنّما اجتهاد مبارك مأجور صاحبه عليه.

وينقسم إلى قسمين:-

الأوّل: الحيوانات المائية أو ما غلب عليها التواجد في الماء.

ويرى جمهور الفقهاء رضي الله تعالى عنهم وعنكم حلَّها للعموم الوارد في قوله سبحانه:-

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [سورة المائدة: 96].

فأمّا القرش فيجوز أكله عند الجمهور لما سبق من الآية الكريمة العامّة في جميع حيوانات البحر، ولا يدخل في قول حضرة النبيّ صلّى الله تعالى وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين:-

(أَنَّه نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ) متفق عليه.

لأنَّ القرش وإنْ كان ذا ناب لكنّه لا يسمّى سَبُعًا في لغة العرب، فالنهي إذن مخصوص بالسباع التي تفترس بنابها، ومَنْ منع أكله قاسه على السباع بجامع الافتراس بالناب.

وأمّا التمساح: فقد حرّمه الجمهور، لأنّه لا يعد مائيًّا محضًا فلا يدخل في عموم الآية الكريمة، مع ما فيه من الافتراس بالناب، وأكله الإنسان، والاستقذار منه، فهذا كلّه ممّا يغلب على الظنّ منع أكله وتحريمه، مع العلم أنّ بعض العلماء فرّق بين التمساح الذي يعيش في البحر فقط فأجاز أكله، وبين البرمائي فمنع أكله، قال ابن الصباغ من فقهاء الشافعية رحمهم الله عزَّ وجلّ:-

(فَأَمَّا مَا يَعِيْشُ فِي البَحْرِ، وَلَا يَعِيْشُ فِي البَرِّ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ ذَلِكَ حَلَالٌ، سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ السَّمَكِ [أَوْ غَيْرِهِ]. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: عَلَى هَذَا يَحِلُّ جَمِيْعُهُ إِلَّا الضِّفْدَع، وَاسْتَثْنَى أَحْمَدُ الضِّفْدَعَ وَالتِّمْسَاحَ، وَقَدْ صُرِّحَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِحِلِّ أَكْلِهِ) أ.هـ.

ولكن المذهب عند السادة الشافعية رحمهم ربّ البريّة جلّ جلاله: تحريم التمساح وعدم الفرق بين البحري والبرمائي؛ للخبث والضرر. كفاية النبيه في شرح التنبيه (8/251).

القسم الثاني: الحيوانات البرية والأصل فيها الإباحة كما ذكرت في الاستدلال بالآية الكريمة:-

{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً —} [سورة الأنعام: 145].

لكنّ العلماء رحمهم الله تعالى خصّصوا هذا العموم بما ثبت عن حضرة خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الميامين.

فعَنْ سيّدنا عبدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما، قَالَ:-

(نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ) الإمام مسلم رحمه المولى المنعم جلّ وعلا.

وما ورد في سؤالكم الكريم من حكم أكل الضبع والثعلب فهما من الحيوانات المفترسة بأنيابها، والأصل فيها التحريم للحديث الذي ذكرته آنفا، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وعنكم، قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله عزّ وجلّ:-

(أَرَأَيْتَ الثَّعْلَبَ وَالضَّبْعَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ هَلْ يُؤْكَلُ؟ قَالَ: لَا خَيْرَ فِي أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا. قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا سَبُعٌ) كتاب الأصل (5/393).

ولكنَّ المذاهب الثلاثة الباقية رضي الله تعالى عنهم وعنكم قالوا بجواز أكل لحم الضبع في المشهور عنهم وخصّوه من الحديث الشريف، لما روي من الآثار عن بعض الصحابة رضوان الله سبحانه عنهم أجمعين، ومنها:-

عن ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ رَحِمَهُ العَزِيْزُ الغَفَّارُ قَالَ:-

(قُلْتُ لِجَابِرٍ: الضَّبُعُ أَصَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: آكُلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: أَقَالَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ) الإمام الترمذي رحمه الله سبحانه.

لكنَّ هذه الآثار قد حكم عليها بعض أهل العلم بالشذوذ لمخالفتها ما هو أثبت منها، قال الإمام الجصاص رحمه الله جلَّ في علاه:-

(وَإِبَاحَةُ الضَّبْعِ إِنَّمَا وَرَدَ فِيْهِ خَبَرٌ شَاذٌّ، لَيْسَ فِي وَزْنِ وُرُوْدِ التَّحْرِيْمِ فِي الاسْتِفَاضَةِ وَالشُّيُوْعِ، وَتَلَقِّي النَّاس إِيَّاهُ بِالقَبُوْلِ، فَصَارَ خَبْرُ التَّحْرِيْمِ قَاضِيًا عَلَيْهِ) شرح مختصر الطحاوي (7/282).

وأمّا الثعلب فالجمهور على تحريمه، قال الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله عزَّ شأنه:-

(وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي الثَّعْلَبِ، فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ تَحْرِيْمُهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيْفَةَ؛ لِأَنَّهُ سَبُعٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُوْمِ النَّهْي. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ إِبَاحَتُهُ) المغني (9/409).

هذا ما ذكره أهل الاختصاص رضي الله تعالى عنهم وعنكم، والذي يسكن له قلب خادمكم القول بالكراهة التحريمية لكلّ من التمساح والثعلب والضبع، والكراهة التنزيهية في القرش، لأنّها من المشتبهات التي حثَّ الشارع الحكيم على تجنّبها قال عليه أفضل الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام:-

(إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) الإمام مسلم رحمه الله جلّت حكمته.

فحريٌّ بالمؤمن أنْ لا يقترب من هذه المشتبهات إلّا في حالة الجوع الشديد أو الضرورة.

والله جلَّت ذاته وصفاته أعلم.

وصلّى الله تعالى وسلّم على أكمل المتنزهين عن الشبهات، وأعظم الداعين لسبل النجاة، وعلى آله وصحبه منبع النور والهدايات، والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الدهور والأوقات.