30/7/2022

نص السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته حضرة شيخنا الجليل رضي الله تعالى عنكم وأرضاكم، وسقانا والمسلمين من أنواركم الزكية وتوجهاتكم النقية ما ننتفع به في الدنيا والأخرى آمين آمين.

حضرة شيخنا الجليل رضي الله تعالى عنكم وأرضاكم:

كيف نعالج سرعة الغضب الذي يصيبنا من أول موقف نُستثار فيه، فنتلفظ بسببه على الآخرين بألفاظ غير حسنة أو فيها تأنيب وتعنيف مبالغ فيه لا لأجل شيء إنّما لأجل ذلك الغضب الذي أصابنا.

وكيف نكبح جماح أنفسنا من أن يُسرع لها الغضب على الآخرين، سواء في غضبنا على أبنائنا وأهلينا أو أحبابنا أو العاملين معنا في المقار الحكومية أو أصحاب المهن والحرف الذين قد يرتكب أيٌّ منهم الخطأ فنسرع بتوبيخه وتعنيفه لما أصابنا من الغضب، رغم أنَّ الأمر في كثير من الأحيان لا يستدعي ذلك الغضب الذي أبداه الغاضب.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته حضرة شيخنا الجليل رضي الله تعالى عنكم وأرضاكم وأدام النفع بالموقع الكريم المبارك للإسلام والمسلمين.

 

الاسم: عبد الله البحري

 

الرد:-

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.

أشكرك على تواصلك مع الموقع الكريم، ودعواتك الطيبة وأسأل الله جلّ وعلا لك بمثلها وزيادة إنّه سبحانه سميع مجيب.

الجواب باختصار:-

إنّ الغضب في غالب الأحيان مرض ينبغي على المؤمن علاجه، والعلاج على مرحلتين:-

الأولى: قبل وقوعه، وذلك بأنْ يعلم أنّ الغضب منهيٌّ عنه، وأنّ أوله شرارة وعاقبته ندامة وخسارة، ويستذكرَ أنّ الحق جلّ جلاله يحبّ الصابرين ويجازيهم على صبرهم الأجور الكبيرة.

قال جلّ شأنه:-

{— وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران عليهم السلام: 146].

الثانية: بعد وقوعه، وعلاجه بكظم غيظه ما استطاع، وبالوضوء، والاستعاذة، وأنْ يغيّر الهيئة التي هو عليها فإنْ كان قائما جلس، وإنْ كان جالسا استلقى، ويحرص أنْ يسكت فلا يتكلّم حال غضبه بشيء، أو يترك المكان.

التفصيل:-

إنَّ الغضب في غالب أحيانه حالة مرضية يستوجب على صاحبه أنْ يعالجه قبل أنْ يتفاقم فيوقعه فيما لا تحمد عقباه من أمور دنياه وآخراه.

وعلاج هذا المرض على مرحلتين:-

الأولى: قبل وقوعه وذلك بأمور منها:-

أولا: أنْ يمرّن نفسه على الصبر والحلم بأنْ يضبطها مرّة بعد مرّة حتى يكون له الحلم سجيّة.

قال عليه أزكى الصلاة والسلام وآله وصحبه الأعلام:-

(إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ) الإمام الطبراني رحمه الله عزّ وجلّ.

وعن سيّدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:-

(أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ) الإمام البخاري رحمه الباري سبحانه.

وقال الشاعر:

إِذَا أَنَـا كَـافَـأتُ الْجَـهُــولَ بِـفِـعْـلِـهِ *** فَهَلْ أَنَا إِلاَّ مِثْلُهُ إِذْ أُحَاوِرُهْ

وَلكِنْ إِذَا مَا طَاشَ بِالْجَهْل طَائِشٌ *** عَلَيَّ، فَإِنَّي بالتَّحَـلُّمِ قَاهِـرُهْ. روضة العقلاء ص (210).

 

ثانيا: أنْ يستشعر ما أعدّه الله تعالى للصابرين من الأجر والمثوبة فقد أخبر سبحانه أنّه معهم معيّة خاصة فقال:-

{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال: 46].

 

وقال جلّ جلاله أنّه يحبّهم:-

{— وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران عليهم السلام: 146].

وورد عن حضرة خاتم النبيين عليه الصلاة والتسليم وآله وصحبه أجمعين أنّه قال:-

(مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ، كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) الإمام ابن ماجه رحمه الله جلّ ذكره.

وقال عليه أزكى صلاة وتحيّة وعلى آله وصحبه أهل الدِّين والحميّة:-

(مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ) الإمام أبو داود رحمه الودود سبحانه.

 

ثالثا: أنْ يعلم أنّ الشجاعة والقوّة والشدّة لا تكون في الغضب ورفع الصوت والتجاوز على الآخرين بل لمَنْ كظم غيظه، وملك زمام نفسه.

قال الحق جلّ جلاله:-

{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [سورة الشورى: 43].

وقال الحبيب الطبيب على أزكى صلوات وسلام السميع المجيب، وعلى آله صحبه أهل الطيب:-

(لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ) متفق عليه.

 

رابعا: أنْ يفكّر في عواقبه وهي في أغلبها وخيمة تؤثّر على صحته وعائلته ومجتمعه.

فكم من شخص توفي أو أصابه مرض عضال، وكم من عائلة تفككت، وبيوت خربت، ومجتمعات تناحرت، بسبب الغضب لأسباب غير مستوجبة -عياذا بالله سبحانه-

قال جلّ في علاه:-

{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [سورة النساء: 25].

وقال الشاعر:-

الصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌّ مَذَاقَتُهُ *** لَكِنَّ عَوَاقِبَهُ أَحْلَى مِنَ العَسَلِ

 

خامسا: أنْ ينظر في سِيَرِ أهل الحلم والصبر وقصصهم، وكيف تصرفوا مع المواقف التي تهيّج الغضب فيتأسى بهم.

وفي تاريخنا المجيد شواهد كثيرة، منها:-

ما رواه سيّدنا أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:-

(كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا يَدَ الخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: غَارَتْ أُمُّكُمْ، ثُمَّ حَبَسَ الخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ المَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ) الإمام البخاري رحمه الله عزّ شأنه.

فتفكّر لو حصل مثل هذا الموقف لك أمام ضيوفك وأنت فيهم ذو شأن؟ يا ترى ماذا تفعل؟

وانظر بعد هذا إلى التصرّف الحكيم من سيّد الحكماء وأحلم الحلماء عليه الصلاة والسلام وعلى آله وصحبه الأتقياء.

ومن الشواهد الناصعة ما روي عن إمام أهل البيت في عصره سيّدنا زين العابدين علي بن الحسين عليهم السلام وذلك:-

(أنّ جَارِيَةٌ له جَعَلَتْ تَسْكَبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ، فَتَهَيَّأَ لِلصَّلَاةِ فَسَقَطَ الْإِبْرِيقُ مِنْ يَدِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَجْهِهِ فَشَجَّهُ، فَرَفَعَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رَأْسَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، فَقَالَ لَهَا:  قَدْ كَظَمْتُ غَيْظِي، قَالَتْ: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، فَقَالَ لَهَا: قَدْ عَفَا اللهُ عَنْكِ، قَالَتْ: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، قَالَ: اذْهَبِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ) الإمام البيهقي رحمه الله عزّ وجلّ.

المرحلة الثانية: بعد وقوعه.

فعلاجه باستذكار ما سبق ممّا أعدّه الله جلّ في علاه للصابرين، وبأمور وردت في السنّة المطهّرة، ومنها:-

أولا: السكوت وعدم الكلام.

قَالَ سيّدنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ تعالى عَلَيْهِ وآله وصحبه وَسَلَّمَ:-

(عَلِّمُوا، وَيَسِّرُوا، وَلا تُعَسِّرُوا، وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ، وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ، وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ) الإمام أحمد رحمه الأحد الصمد جلّ جلاله.

فالكلام في هذه الحال يجرّ غالبا إلى الندم -عياذا بالله تعالى-.

 

ثانيا: الاستعاذة بالله سبحانه من الشيطان الرجيم.

فعن سيّدنا سليمان بن صرد رضي الله تعالى عنه، قال:-

(كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلاَنِ يَسْتَبَّانِ، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَقَالَ: وَهَلْ بِي جُنُونٌ) الإمام البخاري رحمه الباري سبحانه.

 

ثالثا: الوضوء.

قال حضرة سيّد الوجود عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه أهل الكرم والجود:-

(إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ) الإمام أبو داود رحمه الودود تقدّست أسماؤه.

 

رابعا: تغيير هيئته من القيام إلى القعود، ومن القعود إلى الاضطجاع، ونحو ذلك فقد قال حضرة خير البرية عليه وآله وصحبه أزكى صلاة وتحية:-

(إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ) الإمام أبو داود رحمه الله جلّ في علاه.

 

خامسا: أنْ يخرج من المكان الذي حصل فيه الغضب ولا يعود إليه حتى يهدأ وينشرح صدره.

فعن سيّدنا سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال:-

(جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي البَيْتِ، فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟ قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِنْسَانٍ: انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟ فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ فِي المَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ) الإمام البخاري رحمه الله عزّ وجلّ.

ومن المستحسن أنْ يجعل الشخص في جيبه، أو في هاتفه، أو قريبا من يده ما يذكّره بالصبر وترك الغضب كأنْ يخطّ قوله عزّ من قائل:-

{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ —} [سورة النحل: 127].

أو قوله عزّت ذاته:-

{— وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ —} [سورة النساء: 25].

أو يضع صورة مَنْ يعرفُ مِن أهل الحلم والصبر لينظر إليها لعلّه يتأسّى بهم.

وينبغي على مَنْ وقع منه الغضب فظلم أو أساء أنْ يسرع في الاعتذار، وإصلاح ما أفسده ولا يتمادى في ظلمه وغيّه.

قال عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام:-

(أَلَا إِنَّ خَيْرَ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الرِّضَا، وَشَرَّ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الرِّضَا، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ بَطِيءَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ وَسَرِيعَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ فَإِنَّهَا بِهَا) الإمام أحمد رحمه الفرد الصمد سبحانه.

ومعنى (فَإِنَّهَا بِهَا) أي: يخرج كفافا حسنته بسيئته لا له ولا عليه.

والله تبارك اسمه أعلم.

وصلّى الله جلّ جلاله وعمَّ نواله وسلّم على خاتم النبيين، وإمام الصابرين، وعلى آله الطيبين، وصحابته الأكرمين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.