7/10/2022

نص السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

سيّدي حضرة الشيخ رفع الله قدركم ونفعنا بعلومكم وبأنواركم وتوجّهات قلوبكم وجعلكم ذخرا لنا في الدنيا والآخرة.

السؤال:-

سأل سائل يقول: قتلتُ قتلَ الخطأ، دهستُ رجلا فمات، وأعطيت الديّة لذوي المقتول ولا أستطيع أنْ أصوم شهرين متتابعين لأنّي مريض، ولا أستطيع أنْ أطعم ستين مسكينا لعدم استطاعتي على المال، وإنّي ضعيف الحال فما هو المخرج؟

وجزاكم الله خيرا ونفعنا بكم في الدنيا والآخرة

 

الاسم: سلام القره غولي

 

 

الرد:-

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.

وأشكرك على تواصلك مع الموقع الكريم، ودعواتك الطيبة، وأسأل الله جلّ في علاه لك بمثلها وزيادة يحبها لعباده الصالحين إنّه سميع مجيب.

الجواب باختصار:-

إنّ كفارة القتل الخطأ ممّا تعدّدت فيه أقوال أهل العلم رضي الله تعالى عنهم وعنكم، والذي ينشرح له صدري هو:-

الاقتصار على العتق، فإنْ لم يجد فصيام شهرين متتابعين، وليس فيها إطعام ستين مسكينا على الوجوب بل الاستحباب.

التفصيل:-

إنّ مسألة كفّارة قتل الخطأ قد اتفق العلماء رضي الله تعالى عنهم وعنكم فيها على أنّها مرتبة على:-

أوّلًا: تحرير رقبة مؤمنة لقوله تبارك اسمه:-

{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ —} [سورة النساء: 92].

ثانيا: صيام شهرين متتابعين لمَنْ تعذّر عليه العتق لقوله عزّ شأنه:-

{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [سورة النساء: 92].

وتعدّدت أقوالهم رحمهم الله تعالى في وجوب إطعام ستّين مسكينًا لمَنْ لم يقدر على الصيام.

فقد ذهب السادة الحنفية والمالكية والحنابلة في رواية عنهم رحمهم الله جلّ جلاله أجمعين إلى عدم وجوب إطعام ستين مسكينا.

وذهب السادة الشافعية ورواية عن الإمام أحمد رحمهم الله جلّ في علاه إلى وجوب الإطعام لمَنْ عجز قياسًا على كفّارة الظِّهَار.

قال الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله عزّ وجلّ:-

(إنَّمَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ سَلَّمَ لَهُ نَفْسَهُ شُكْرًا لِلَّهِ حِين أَسْقَطَ عَنْهُ الْقَوَدَ بِعُذْرِ الْخَطَأِ مَعَ تَحَقُّقِ إتْلَافِ النَّفْسِ مِنْهُ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ نَفْسٍ مَقَامَ نَفْسِهِ شُكْرًا لِلَّهِ، وَذَلِكَ فِي أَنَّ تَحَرُّرَ نَفْسٍ مِنْهُ؛ لِتَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ شُكْرًا لِلَّهِ حَيْثُ سَلَّمَ لَهُ نَفْسَهُ، … وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ إطْعَامٌ عِنْدَنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ إذَا عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ) المبسوط (26/67).

وقال الإمام ابن قدامة المقدسي في بيان مذهب الإمام أحمد رحمهما الأحد سبحانه:-

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:-

إحْدَاهُمَا، يَثْبُتُ الصِّيَامُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهُ، وَلَوْ وَجَبَ لَذَكَرَهُ.

وَالثَّانِي: يَجِبُ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا: لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ فِيهَا عِتْقٌ وَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) المغني (8/403).

والذي أرجّحه:-

استحباب إطعام ستين مسكينا لا الوجوب خروجًا من الخلاف.

ولا يكون دفعة واحدة بل يُطعم حسب ما يتيسّر له.

قال عز وجلَّ:-

{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [سورة الطلاق: 7].

وَعَنْ سَيِّدِنَا أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ:-

(بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ. قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قَالَ: لاَ، فَقَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قَالَ: لاَ، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: خُذْهَا، فَتَصَدَّقْ بِهِ) متفق عليه.

ففي هذا الحديث الشريف وأمثاله من النصوص الكريمة تتجلّى الرحمة في الشرع الحنيف من حضرة خاتم النبيين عليه الصلاة والتسليم وآله وصحبه الميامين بمَن ابتلوا بالكفّارات، توجيهًا للأمّة على رحمتهم والوقوف معهم.

وينبغي أنْ يُعلم أنّه لا يجوز الانتقال إلى الإطعام مع القدرة على الصيام، وليس أيّ مرض يمنع منه، بل يجب الرجوع إلى أهل الخبرة من الأطباء الأتقياء العدول الذين يخافون الله جلّ وعلا ويعظّمون أوامره، فإنْ أثبتوا له وجود الضّرر المتحقّق منه، وإلّا فإنّ صيام الشهرين سيبقى في ذمّته، لأنّ هذا من فرائض الله عزّ شأنه وحدوده وهو القائل سبحانه:-

{وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [سورة الطلاق: 1].

فمَنْ قدر على صيام شهر رمضان في شدّة الحرّ هو قادر قطعًا على صيام شهرين متتابعين في أيّام البرد وقِصَر النّهار، فلا ينبغي التهاون في هذه الكفّارة فإنّها واجبة على مَنْ قتل خطأ وقدر عليها كما أنّ صيام رمضان واجب لمَنْ استطاع.

والله تبارك اسمه أعلم.

وصلّى الله تعالى وسلّم على حضرة خاتم النبيّين، وإمام المتقين، وعلى آله الطيّبين، وصحابته الأكرمين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.