2020-06-01
السؤال:
(سؤال بخصوص الذكر الشريف)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سيّدي ومرشدي وزادي في الدارين وما بينهما حفظكم ربي ذخرا للإسلام والمسلمين بجاه سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
السؤال: هل يجوز في الرابطة القلبية ذكر لفظ الجلالة بياء النداء (يا الله) أم لا؟ وهل يجوز للسالكين ذكر اسم الله جل جلاله وعم نواله (هو) في الرابطة القلبية أيضا؟ لأنّها تكون سلسة على لسان خادمتكم. مع خالص تحياتي واحترامي لكم سيّدي الحضرة رضي الله عنكم.
الاسم: أم محمد
الرد:
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.
وجزاكم الله جلّ وعلا خيرًا على دعواتكم الطيّبة المباركة.
قال السميع العليم جلّ جلاله وعمّ نواله:-
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى —} [سورة الإسراء: 110].
أحبّ أوّلا أنْ أذكِّر بأنّي عندما أقول: الذكر في الرابطة، أقصد الذكر بعد الرابطة لا بمقارنتها، ولزيادة الفائدة أرجو مراجعة جواب السؤال المرقم (1180) في هذا الموقع الكريم.
وقبل الجواب عن السؤال، أذكر بين يديه هاتين المقدّمتين النافعتين:-
الأولى: إننا يجب علينا أنْ نفهم معنى الذكر، يقول الراغب الأصفهاني رحمه الله عزّ شأنه:-
(الذكر تارة يقال ويراد به هيئةٌ للنفس بها يمكن للإنسان أنْ يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وتارة يقال لحضور الشيء القلبَ أو القولَ، ولذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللسان) المفردات في غريب القرآن (1/328).
وقد بيّن القرآن الكريم أحوال الذكر، قال الحق عزّ وجلّ:-
{وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوّ وَٱلاْصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ ٱلْغَـٰفِلِين} [سورة الأعراف:205].
وقال سبحانه:-
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [سورة الرعد: 28].
وعن سيّدنا عبدُ اللهِ بنُ بُسْرٍ رَضِي اللهُ تَعَالَى عَنه:-
(أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) الإمام الترمذي رحمه ربنا العلي.
المقدمة الثانية: أسماء الله تباركت ذاته توقيفية، أي لا مجَالَ للقِياسِ فيها، وإنّمَا يُراعَى فيها الشّرع والنصّ.
أمّا بالنسبة للذكر بصيغة: (يا الله)، فقد ورد في العديد من الأحاديث المرفوعة نداء ربّنا جلّ وعلا ودعاؤه بكثير من أسمائه الحسنى، وإذا ثبت دعاء الله سبحانه ببعض أسمائه، فهذا يدلُّ على جوازه في الباقي، لأنّ حكمها واحد، ولا يفرَّق بينها، إذ رضيها الله جلّ جلاله جميعا أسماء له.
وما ذكرته يتفق مع ما قاله الإمام الطبري رحمه الله عزّ كماله في تفسيره:-
(إنّ حضرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يتهجَّد بمكة ذات ليلة، يقول في سجوده: يا رَحْمَنُ، يا رَحيمُ، فسمعه رجل من المشركين، فلمّا أصبح قال لأصحابه: انظروا ما قال ابن أبي كبشة، يدعو الليلة الرحمن الذي باليمامة، وكان باليمامة رجل يقال له الرحمن: فنزلت: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى —}) تفسير الطبري (17/580).
فمن باب أولى جواز الذكر بلفظ (يا الله)، لأنّه اسم للذات الإلهية التي لا يشترك معه فيه غيره من المخلوقات، فهو مجمع الكمالات والصفات الإلهيَّة.
قال سيّدي حضرة الشيخ عبد الله الهرشمي طيّب الله تعالى روحه وذكره وثراه في منظومة المقتطف:-
اللهُ اسْـمُ الذّاتِ إذْ ذَكَرْتَه *** فَـقَـدْ دَرَيْتَ مَـنْـزِلاً قَــدَرْتَه
وقال:
بِاسْمِهِ وَهُـوَ الجَامِعُ العَـظِـيـم *** تَجَمَّـعَ التَـرْقِـيـقُ وَالـتَـفْـخِـيـم
فَخَامَةُ الجَلَالِ فِي اسْمِ الـذَاتِ *** يَسْتَلْزِمُ التَفْخِيمَ فِي الأصْوَاتِ
عَنْ سيّدنا مِحْجَنَ بنَ الأَدرَع رضي الله تعالى عنه قال:-
(دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ، وَهُوَ يَتَشَهَّدُ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا اَللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قَالَ: فَقَالَ: “قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ، ثَلَاثًا) الإمام أبو داود رحمه ربنا المعبود.
فمَنْ منع الدعاء باسم الجلالة (الله) الذي جمع معاني ودلالات بقيّة الأسماء الحسنى، يلزمه المنع من نداء الله وسؤاله بأسمائه الحسنى الأخرى الواردة في القرآن الكريم والسنّة المطهّرة، ولم يَقل بهذا أحد من أهل العلم رضي الله تعالى عنهم وعنكم.
كيف يجرؤ أحد أنْ يقول ذلك بعد أنْ أمَرَ اللهُ عزّ وجلّ قائلا:-
{— قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].
وقال عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام:-
(لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ، اللهُ) الإمام مسلم رحمه المنعم جلّ وعلا.
كما أنّه قد ورد في النصوص الشرعية الدعاء بـ (اللهمّ)، وقد أجمع أهل العلم رضي الله سبحانه عنهم وعنكم أنّ (اللهمّ) تعني (يا الله)، قال الإمام الطبري رحمه ربنا عزّ جاره:-
(أَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ {قُلِ اللَّهُمَّ} فَإِنَّهُ قُلْ يَا مُحَمَّدُ: يَا اللَّهُ) تفسير الطبري (5/299).
ولزيادة الفائدة أرجو مراجعة جواب السؤال المرقم (2370) في هذا الموقع الكريم.
أمّا بالنسبة للفظة (هو) فهي ليست اسماً من أسماء الله جلّت صفاته؛ إذ لم يثبت بنصّ من الشرع الشريف، بل هو ضمير الشأن يقال عنه في علم العربية (ضمير منفصل للغائب).
وذهب بعض العلماء رضي الله تعالى عنهم وعنكم كالإمام الرازي رحمه ربّنا الباري في كتابه: لوامع البينات شرح أسماء الله تعالى والصفات ص73 ، والإمام القشيري رحمه ربنا عزّ اسمه في كتابه: شرح أسماء الله الحسنى ص71 إلى أنّ هذه اللفظة من أسماء الله عزّ وجلّ الحسنى.
وقد ورد في دعاء سيّدنا سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى شأنه:-
(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ هُوَ هُوَ) المشيخة البغدادية للشيخ أبي طاهر السِّلَفي رحمه الله تعالى (6/46).
والذي أميل إليه أنّ ناطق هذه اللفظة إنْ كان بحضور قلب فهو نوع من أنواع الذكر الذي بيّنته، أمّا مع الغفلة فليس التلفّظ بها ذكرا؛ إذ ليست اللفظة من أسمائه تبارك اسمه على الأرجح لأنّه لم يرد ذلك في الأخبار المقبولة عند المحدَّثين رضي الله تعالى عنهم وعنكم.
ثمّ إنّ الذكر الأنفع بعد الرابطة هو ما يرد على القلب بدون تكلّف.
وصلِّ اللهمّ على النبيّ الأواه، سيّدنا محمد خير مَن ذكر الله جلّ في علاه، وعلى آله وصحبه وسلّم ومَنْ والاه.
والله جلّت أسماؤه أعلم.