12-2-2022
نص السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كيف حالك سيّدي الغالي حفظك الله تعالى لنا ذخرًا بالدارين ورضي الله تعالى عن جميع مشايخنا الكرام.
سؤالي هو:-
ما هي الأقدار التي كتبها الله سبحانه وتعالى على الأنسان وهي ثابتة لا تتغيّر؟ وما هي الأقدار التي تتغيّر بالدعاء والأخذ بالأسباب الشرعية؟
وجزاكم الله خيرًا عنّي وعن جميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.
الاسم: سائلة
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.
حفظكم سبحانه، وضاعف لكم الحسنات، ورفع لكم الدرجات، وأجاب لكم الدعوات، وأشكركم على زيارتكم لهذا الموقع الكريم.
أهل العلم رضي الله تعالى عنهم وعنكم قسموا أقدار الله سبحانه إلى قسمين:-
أوّلا: معلّق: ما قَدَّرَه تعالى في الأَزَل بفِعْل، كأنْ يُقال:-
إنْ فَعَلَ الشيءَ الفلانيَّ فكان كذا أو كذا، وإنْ لم يفعلْه فلا يكونُ، وهو من قَبيل ما يتطرَّقُ إليه المَحْوُ والإثباتُ.
قال عزَّ من قائل:-
{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [سورة الرعد: 39].
وهو ممّا يكون الدعاء ونحوه من الأسباب التي قدرها الله عزّ وجلّ سببا في تغيره.
ثانيا: مُبرمُ: ما قَدَّره سبحانه في الأزل من غير أنْ يُعَلِّقَه بفعل، فهو في الوقوع نافذٌ غايةَ النَّفَاذ، بحيث لا يتغيَّرُ بحالٍ، فلا يتطرَّقُ إليه المَحْوُ والإثبات، وعليه يحمل قوله عزّ شأنه:-
{— وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [سورة الأحزاب: 38].
جاءت نصوص الشرع الشريف دالة على أنَّ بعض الأقدار ترفع عن العباد بفضله عزَّ شأنه، وبأعمال البرّ والخير والرشاد، فمن هذه الأسباب:-
أولا: رحمة الله تعالى وحلمه ولطفه بعباده، وذلك لأنّهم استحقوا بما اكتسبوا من الكفر والأوزار والظلم، ومبارزة الله سبحانه أنْ يقدّر عليهم أشدّ العذاب لكن حلمه وكرمه جلّ جلاله مانعان من وقوعها.
قال عزَّ وجلَّ:-
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [سورة فاطر: 45].
وقال محذرا لعباده من مغبّة الكفر:-
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [سورة السيدة مريم عليها السلام: 88 – 92].
ثانيا: أنْ يوجد فينا حضرة خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والتسليم وعلى آله وصحبه أولي الفضل العظيم، فإنَّ وجوده من أعظم أسباب دفع أقدار السوء التي استحقها العباد بذنوبهم.
قال عزَّ من قائل:-
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ —} [سورة الأنفال: 33].
ويُفهم من الآية الكريمة أنَّ مَنْ عمل بسنّته، وقام بشريعته صلوات ربي وسلامه عليه وآله وصحبه، فإنّه محفوظ من حلول البلاء، وسطوة الشقاء.
قال الإمام الحافظ القاضي عياض رحمه الله تقدّست أسماؤه:-
(قَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَمَانُ الْأَعْظَمُ مَا عَاشَ، وَمَا دَامَتْ سُنَّتُهُ بَاقِيَةً فَهُوَ بَاقٍ فَإِذَا أُمِيتَتْ سُنَّتُهُ فَانْتَظِرُوا الْبَلَاءَ) كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/47).
ثالثا: وجود الصالحين المصلحين رضي الله تعالى عنهم وعنكم الذين ببركة صلاحهم وإصلاحهم ودعائهم يدفع الله عزَّ شأنه عن الخلق ما استحقوا من بعض الأقدار.
قال العزيز الغفّار سبحانه:-
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [سورة سيدنا هود عليه السلام: 117].
وروي عن حضرة سيّدنا خاتم النبيّين عليه الصلاة والتسليم وعلى آله وصحبه أجمعين أنّه قال:-
(مَهْلًا عَنِ اللهِ مَهْلًا، فَإِنَّهُ لَوْلَا شَبَابُ خُشَّعٌ، وَبَهَائِمٌ رُتَّعٌ، وَشُيُوخٌ رُكَّعٌ، وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ، لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبًّا) الإمام البيهقي رحمه الله عزَّ وجلَّ.
أمّا إذا وجد الصلاح وكثرت المنكرات والفواحش ولم يوجد الإصلاح منهم فإنَّ هذا لا يغني من عذابه جلّت قدرته وعقابه.
عن أمّ المؤمنين زَيْنَبَ رضي الله تعالى عنها:-
(أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ وَبِالَّتِي تَلِيهَا، فَقَالَتْ زَيْنَبُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) متفق عليه.
رابعا: كثرة ذكر الله سبحانه والمداومة على الاستغفار.
قال تبارك في علاه:-
{— وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [سورة الأنفال: 33].
خامسا: البر وصلة الرحم.
قَالَ سيّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ:-
(مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) متفق عليه.
سادسا: الدعاء كما تفضلتم فقد صحَّ عن حضرة سيّدنا رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام أنَّهُ قَالَ:-
(لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ للخَطِيئَة يَعْمَلُهَا) الإمام ابن حبان رحمه الرحيم الرحمن جلّ وعلا.
وعن سيّدنا أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه أنَّه قال:-
(كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ البَلاَءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ) متفق عليه.
فتعوّذه -صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا- من سوء القضاء، دليل على أنَّ الدعاء سببٌ مهمّ في دفع الأدواء والأقدار، أعاذنا الله جلَّ في علاه وإيّاكم، والمسلمين منها.
سابعا: التوسل بالصالحين رضي الله تعالى عنهم وعنكم وبدعائهم، المذكورين في السؤال المرقم (510) في هذا الموقع المبارك.
وهذا القسم من الأقدار يسمّيه أهل العلم رضي الله سبحانه عنهم وعنكم (القدر المعلّق).
وجاء أيضًا في نصوص الشرع المطهّر أنَّ بعض أقدار المولى جلّت ذاته وصفاته، ثابته لا تتغير؛ لحكمة عظيمة، وقدرة نافذة، قال عزَّ من قائل:-
{— وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [سورة الأحزاب: 38].
وهذه الأقدار وإنْ كانت ثابتة لا تتغيّر لكنّها محفوفة بعدله ورحمته جلّ شأنه.
ومثل هذه الأقدار التي لا يردّها حتّى الدعاء ما جاء عن حضرة سيّد الأولين والآخرين عليه وآله وصحبه أزكى صلاة وتسليم:-
(سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي: أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا) الإمام مسلم رحمه المنعم سبحانه.
وفي رواية له:-
(وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ).
فقد دعى حضرة خاتم المرسلين، عليه الصلاة والتسليم وآله وصحبه الميامين، وهو أعظم مَن يدعو مولاه سبحانه، أنْ لا يجعل بأس أمّته فيما بَيْنَهم، لكن الحقّ جلّت عظمته منعه هذه الدعوة، لحكمة بالغة وقدر نافذ، وهو أحكم الحاكمين جلَّ جلاله وعمّ نواله، فدلَّ على أنَّ الدعاء لا يردّ كلّ مقدر.
ومثلها أيضًا:
كثيرا ما يظنّ العبد أنّ الخير في هذا الأمر، فيدعو به، والحقّ تعالى لا يُقَدِّرُهُ له؛ لأنّه سبحانه يعلم أنّ الخير في غيره، أو في تأخيره، أو يظنّ أنّ في هذا الأمر شرًّا، فيدعو بدفعه، ولعله يكون خيرًا له، فيوقعه الله عزّ وجلّ عليه ابتلاء وتمحيصًا، فالرحيم الحكيم لا يقدّر إلّا ما فيه صلاح خلقه وفلاحهم.
قال عزّ كماله:-
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة: 216].
ومثلها ما روي عن سيّدنا ابن مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنه قَالَ:-
(قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكِ سَأَلْتِ اللهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَا يُعَجِّلُ شَيْئًا مِنْهَا قَبْلَ حِلِّهِ، وَلَا يُؤَخِّرُ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ حِلِّهِ، وَلَوْ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ، وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ) الإمام مسلم رحمه المنعم سبحانه.
وهذا القسم يسمّيه أهل العلم رضي الله تعالى عنهم وعنكم: (القدر المبرم)
قال الإمام مظهر الدين الزيداني رحمه الرحمن جلّ جلاله:-
(واعلمْ أنَّ الله تعالى قضى في خلقه قضاءين مبرَمًا ومُعَلَّقًا.
وأمَّا القضاءُ المُعَلَّقُ: فهو عبارةٌ عمّا قَدَّرَه في الأَزَل مُعَلَّقًا بفِعْل، كما قال: إنْ فَعَلَ الشيءَ الفلانيَّ فكان كذا أو كذا، وإنْ لم يفعلْه فلا يكونُ كذا وكذا.
وهو من قَبيل ما يتطرَّقُ إليه المَحْوُ والإثباتُ، كما قال تعالى في مُحْكَم كتابه {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [سورة الرعد: 39].
وأمّا القضاء الـمُبْرَمُ؛ فهو عبارةٌ عما قَدَّره سبحانه في الأزل من غير أن يُعَلِّقَه بفعل، فهو في الوقوع نافذٌ غايةَ النَّفَاذ، بحيث لا يتغيَّرُ بحالٍ، ولا يتوَّقفُ على الَمْقضيِّ عليه ولا الَمْقضيِّ له؛ لأنه من عِلْمِه بما يكون وبما كان، وخلافُ معلومه مستحيلٌ قطعًا.
وهذا مِن قَبيلِ ما لا يتطرَّقُ إليه المَحْوُ والإثبات، قال الله عزّ وجلّ: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [سورة الرعد: 41]) المفاتيح شرح المصابيح (6/96).
فعلى المسلم الصادق أنْ يأخذ بالأسباب في أموره فيكثر من الدعاء، والبرّ والصلة وعمل الخير، ثمّ عليه التسليم لما يجري به القضاء، ويعلم قطعًا أنَّ الخير فيما اختاره الحقّ جلّ جلاله.
ولمزيد من الفائدة أرجو مراجعة السؤال المرقم (1804) في هذا الموقع المبارك.
والحكيم القدير أعلم.
وصلّى الله تعالى وسلّم على سيّد الأنبياء، وعلم الأصفياء، وإمام الأولياء، وأعظم المسلمين للقضاء، وعلى آله وأزواجه رمز العفاف والنقاء، وعلى أصحابه وتابعيهم إلى يوم البقاء.